وردت كلمة (سِخريَّا) في القرآن الكريم بكسر السين؛ أي السخرية والاستهزاء؛ وذلك في قوله تعالى: (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) المؤمنون: 110، كما وردت بضم السين؛ بمعنى التسخير.
قال ابن كثير في تفسيره: يَنهى اللهُ عز وجل عن السُخرية بالناس؛ أي عدم احتقارهم والاستهزاء بهم، فقد يكون المُحتَقَر أعظم قدرًا عند الله وأحب إليه من المحتَقِر.
ولابد أن نفرق بين النقد المُباح البنَّاء الذي يهدف إلى إصلاح ما فسد وتدارك الأخطاء التي وقع فيها البعض بلطف ولين وعبارات مهذبة لا تجرح المشاعر، وبين من يسخر ويهمِز ويلمِز ويكذِب ويفترِي ويسُب ويشتم دون مراعاة الحرمات، بقصد الإساءة للغير.
لا يستطيع كثيرٌ من الناس مفارقة روح الدعابة التي يتمتعون بها حتى في أحلك الأوقات والظروف، لكنهم في نفس الوقت يمقتون استخدام الألفاظ البذيئة أو التجريح الشخصي، فلماذا نستهلك طاقتنا في السخرية والتشرذم وتخوين بعضنا البعض، في وقت نحن أحوج فيه- أكثر من أي وقت مضى- إلى توحيد الصف لبناء مستقبل أفضل لأوطاننا.
أما كلمة “سُخريَّا” بضم السين، فتعنى التسخير في العمل والخدمة؛ إذ يقول الله تعالى: ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ). الزخرف:32. فلا يصلح أن يكون الشعب كله من المهندسين، أو الأطباء، أو المدرسين، أو الخبراء الاستراتيجيين، أو النشطاء السياسيين؛ فكلٌ مُسخَّر لما خُلِق له.
على سبيل المثال: المستشفى قوامها طبيب، وممرضة، ومهندس، وفني أجهزة طبية، وعامل نظافة، ومهندس صمم، ومقاول شيَّد وأقام البناء، وعمال صيانة، وآخرون صنعوا مكونات المستشفى وغيرهم الكثير. كلهم سُخِّروا لخدمة شخص واحد، هو المريض، فإذا قُدِّر للبشر أن يكونوا متساوين جميعًا من ناحية الذكاء والاستعداد النفسي والجسماني، فلن يظهر رواد الأعمال الذين يهدفون للإعمار في الأرض بمشاريعهم ومنتجاتهم وخدماتهم، ويكملون بعضهم بعضًا.
ويفهم البعض جهلًا أن معنى قوله تعالى: “وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ” بأنه دليل على عدم العدالة الاجتماعية، ولكن يرد عليهم العلماء بأن هذا يصح في حالة تفسير العدالة بالمساواة، بينما العدالة تعني وضع كل شيء في موضعه ضمن منظومته، فهل وجود هيكل إداري لشركة يضم المدير والمحاسب والسكرتير، أو سلسلة الرتب العسكرية، أو الوظائف الحكومية، دليل على الظلم في تلك الهياكل أو الوظائف؟!
هناك العامل والمهندس، والممرض والطبيب، والمُعلِّم وأستاذ الجامعة، والمُجَنَّد ورئيس الأركان، والبائع المُتَجَوِّل ورئيس الغرفة التجارية؛ فالدنيا مراتب، (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ)، فَحَتَّى مراتب الدنيا بِمِقياس البشر هي بقِسمة الله عز وجل؛ فهذا التنوع والتكامل سر من أسرار انتظام الحياة.
وأخيرًا، أقول لكل شاب لم يجد الوظيفة المناسبة بعد، أو يحلم بفكرة يعجز عن تحقيقها، أو مشروع يسعى لتنفيذه: طور ذاتك، اقرأ، تدرَّب، استخدم الإنترنت كوسيلة مجانية للتعلم، والاستعداد ليوم لا مكان فيه إلا لأصحاب (الطحين)، وليس لأصحاب (الضجيج)، لا أقول اعمل فقط، بل أتقن العمل، وجَوِّده وحسِّنه واحتسبه لوجه الله تعالى.
اقرأ أيضًا:
الاقتصاد المعرفي وأهميته للدول العربية