يعتريك شعور بقدرتك على تقديم عمل معين يمثل إضافة للحياة، وإثراء لها، يزيدها جمالًا وإبداعًا، ينتفع منه الناس وبه يتمتعون، يخالط درجة عالية من اليقين بأنك الوحيد الذي يستطيع تقديم ذلك العمل على الوجه المطلوب، وأنك الوحيد الذي تتقن أداءه وتبدع في إنجازه، ويخالطه أيضًا قلة في الصبر، مع تفتق الذهن، وتفلت الأفكار، وتجول الخيال في مستقبل زاهٍ تتحقق فيه الأمنيات، وتُرى فيه المنجزات رأي العيان.
ذلك الشعور؛ هو الإحساس الغامر الآسر الطموح الذي يُعرف بالشغف.
وللشغف نداء خافت يأتي من الأعماق، أتاني قبل ستة أعوام من الآن، بعد أن أتممت دراسة ماجستير إدارة الأعمال، وكنت قبل ذلك قد أتممت أكثر من عقد، مهندسًا بقطاعات النفط والغاز والتعدين، بعيدًا عن الأعمال الأدبية والمساهمات الاجتماعية التي لم تكن من هواياتي ولا من ممارساتي الطبيعية.
ناداني شغفي المتمثل في الفضول العلمي والبحث عن العلاقة والتراكيب، ودعاني للنظر إلى أساليب تواصلنا وحواراتنا اليومية متسائلًا: ما بال الناس في فوضى التواصل غارقون؟ وما بالهم عن أبواب الخير اليسيرة محجمون؟ وما بالهم بالإحسان وطيب الكلام يبخلون؟ فلا السلام يتردد ولا الوئام، ولا طاب صباحك ولا مساؤك، ولا عفوًا ومعذرةً، ولا هم يبشون أو يبتسمون، وما بالهم في اكتساب صفات الجَمَال ووسائل الجاذبية يزهدون؟!
أمسكت بالقلم وبدأت بالكتابة والرسم، في صورة تعكس سلوك المهندس، وبدأت بجمع العوامل المؤثرة والمُمَكِنة، والمُدخلات والمُخرجات، فصممت برنامج مسابقات للقنوات الفضائية، يتسابق عبره الشباب بتصوير حواراتهم التي تعكس فنون التواصل؛ ليتم عرضها على الهواء أمام حكام من أهل الاختصاص يتولون التقييم والنقد والتصويب؛ فتتأصل بهذا الأسلوب الفكرة ويبقى الأثر، وتُقدَّم على إثر ذلك الجوائز للناجحين.
ولكن النجاح لم يحالف المقترح رغم أنه حظي بثناء كل من استمع إليَّ وقرأ. لم ينجح المقترح لأني قذفت به للقنوات عبر البريد وقنوات الاتصال، وما ينبغي أن يُقذف الشغف بتلك الطريقة! ثم شاهدت بعد ذلك في بعض القنوات ووسائل التواصل الاجتماعي أعمالًا شبيهة، ولكنها كانت بلا سياق سليم، ولا هدف يعزز قيمة، أو يؤسس قناعة.
ناداني الشغف من جديد: أن امض يا سعيد! ولكن هذه المرة بصوت ضعيف هزيل، أنهكه التردد والخجل؛ لأنه يدرك أنه يخاطب إنسانًا ليس برجُل إعلام أو عالم اجتماع، ولا مربيًا ممن ذاع صيتهم، ولا داعية أو أديبًا مشهورًا.
مع ذلك، أراد الشغف مِنّي باختصار أن أنقذه قبل يوأد تحت الرمال، وأن أخرجه إلى النور قبل أن يخفي معالمه الظلام، وترك لي حرية الاختيار بين الوسائل المناسبة وطرق الإنقاذ، فاخترت حينها أن أكتب كتابًا في التواصل، أدرس من خلاله مواطن الخلل في تواصلنا والعوائق وأسباب الفشل، وأدرس كذلك ميزات حسن التواصل وما يحمل في طياته من فضائل ودرر، وأن أتفحص كل الطرق المُمَكنة والأساليب الموصلة إلى ذلك المراد، ثم بدأت السير نحو ذلك الهدف في طريق طويلة، تحدها من جنباتها محفزات الفوضى ومغريات الجمود، ولكني بفضل الله وصلت إلى حيث أردت في سلام بعد رحلة شاقة وفي الوقت نفسه ماتعة، فكان الكتاب “بين الفوضى والجمود، التواصل الفعال حكمة ورشد وجمال”.
منذ بدأت قصة حياة الكتاب التي امتدت قُرابة ستة أعوام، لم تنقطع خدمتي له، ولم ينقطع دعمي للشغف والهدف، رغم المشاغل العديدة والتوقفات، التي كان من ضمنها إتمام برنامج الدكتوراه.
لقد قرأت كثيرًا في المراجع، وبعد أن بدأت بالكتابة التحقت بدورات إعداد المدربين؛ لمعرفة طرق تفكير شرائح الناس وأنماط فهمهم وتلقيهم، والطرح الذي يناسب كل شريحة منهم، ثم – وفي الطريق – قرأت عن الإرشاد الشخصي (الكوتشينج) فشدني ما فيه من مهارات السؤال والاستماع ومخاطبة الذات، فتعلمته وتميزت فيه ونلت فيه الشهادات.
وكذلك، فعلت مع فن دراسة الأنماط الشخصية، الذي تميزتُ فيه؛ حتى أصبحت في مجاله مستشارًا، وتعلمت بسببه أن أقبل جميع الناس وأحبهم وأستخرج ما فيهم من قيم مدفونة وملامح جميلة، ، وتمسكت بسببه أيضًا بالتواضع والثقة بالذات، وأيقنت أن الله سبحانه وحده هو موزع الهبات، وأن لكل إنسان طاقته وتفرده.
تجدون في كتابي عصارة تلك الجهود وملامح ذلك الشغف، وأكثر من ذلك، تجدون فيه فنون ومهارات التواصل ولغز الحوار مع الذات، وتتعرفون من خلاله على بعض ملامح إبداع الخالق وبعض أسرار المشاعر.
وختامًا أقول: لكي تشعر بمتعة الإنجاز وتحقق الأمنيات: إيَّاك.. إيَّاك أن تهمل ذلك النداء.
اقرأ أيضًا:
الاقتصاد المعرفي وأهميته للدول العربية
ثقافة التطوع وأهميتها للباحثين عن عمل