في رحلة بدأت عام 1989 – ومازالت مستمرة – أتيحت لي الفرصة للخوض في عالم المنشآت الصغيرة والمتوسطة، وتبادل الأفكار مع أصحاب المنشآت التي نتج عنها تجارب تفيد في إثراء هذا القطاع الذي يمثل أكثر من 95% من المنشآت في الوطن العربي.
قمت بتسجيل مئات الأفكار، ووضعت معظمها في كتاب نفدت كل نسخه فور صدوره. أنقل لكم بعض المشاهد والأفكار لعلها تُلهم وتُفيد رواد الأعمال وأصحاب المنشآت، وربما تساعد الباحثين عن أفكار جديدة تنقلهم من عامة الموظفين إلى صفوة الأثرياء.
المشهد الأول: مصنع بدون معدات أو عمال أو أرض!!
عندما دعتني لزيارة مكتبها لمعرفة رأيي في عملها الذي يتركز في تصدير صابون إلى أفريقيا بنحو مليوني جنيه سنويًا، وهي تفكر بالتوسع في ذلك، طلبتُ منها زيارة المصنع للتعرف على إمكانياته، وهل يستطيع تلبية الطلبات المتزايدة مستقبلًا، ففاجأتني بأنه ليس لديها مصنع، بل إن فكرتها قامت على تأجير خط إنتاج بشركة حكومية للزيوت والصابون، فيما تقوم هي فقط بتصنيع الاسطمبات الخاصة بالصابون محليًا بتصميم أنيق، وشراء الخامات المطلوبة من شركة الزيوت نفسها، وأخرى محلية أيضًا، فوفرت نفقات ووقت وجهد إنشاء مصنع كامل، وخرجت فكرتها في شهور بسيطة دون الانتظار لسنوات.
المشهد الثاني: رقم 1 أفضل من رقم 23
جاءني شاب متحمس، طالبًا النصح حول كيفية بدء مشروع إنتاج أجبان بيضاء؛ حيث تشتهر قريته بإنتاجها وفيها اثـنان وعشرون مصنعًا، تتنافس لإنتاج المنتجات نفسها. سألته عن العبوة التي يتم فيها تعبئة الأجبان، فأخبرني أنها من صفيح معدني مُجلفَن ذي اشتراطات معينة يحضرونه من مدينة تبعد عن قريته بأكثر من 300 كم؛ حيث يوجد مصنع الصفيح. وهنا اتضحت الفكرة، فقلت له: لماذا تود أن تكون المصنع الثالث والعشرين، بينما يمكنك أن تكون المصنع الأول الذي يتسابق إليه الـ 22 مصنعًا الأخرى؟. بدأ بمعدات صناعة محلية، مع خامات محدودة لم تكلفه حينها مبلغ 10 آلاف جنيه، لكن بعد سنوات صار لديه خط إنتاج حديث وفرن وخط طباعة حديثة ملونة، وإجمالي أصول تقدر بـ 6.5 مليون جنيه. وفي المعسكر الآخر- وبعد هذه السنوات- لم يتبق على قيد الحياة سوى سبعة مصانع أجبان، بعد أن لفظ السوق الهزيل منها.
المشهد الثالث: أيهما أغلى.. الفستق أم الفانيليا ؟!
سيطر مصنع آيس كريم على معظم سوق إحدى المحافظات؛ إذ أخبرني صاحبه أن المصنع ينتج أكثر من 12 منتجًا بنكهات مختلفة، ولكن كانوا يعانون من أن سعر بعض النكهات مرتفع وبعضها الآخر منخفض. أرسلت له خبيرًا في حساب التكاليف ليوضح له التكلفة الحقيقية لكل منتج، فاكتشف أن المصنع لا يجب أن ينتج كميات متساوية من كل نكهة، ولكن بخطة متقنة تم إنتاج كميات متفاوتة حسب تكلفة النكهة نفسها، إضافة إلى حجم الطلب على هذا النوع من المنتج، فزادت الأرباح بنسبة 60% بعد تطبيق هذه الخطة، وبدأ إنتاج المصنع يغطي مدنًا أخرى، وأصبح الأول في فئته وفي ست محافظات.
المشهد الرابع: كيف تقيس مردود اللافتة الإعلانية؟
حرصت مديرة شركة إلكترونيات متقدمة على وضع لافتات إعلانية كبيرة لخدمات الشركة في الميادين العامة والأسواق الكبيرة والشوارع الرئيسة. وأرادت قياس مردود هذه اللافتات، وأي المواقع يأتي بعدد أكبر من الزبائن للتركيز عليه، وأي منها ضعيف المردود لتوفر قيمة إيجاره. اقترح عليها أحد موظفيها أن تتوسع في سنترال الشركة، وتضع أرقام هواتف مختلفة لكل من هذه اللافتات. وبعد ثلاثة شهور فقط كان الأمـر واضحًا؛ فهناك لافتة أتت وحدها بـ 43% من عدد الزبائن، وأخرى بـ 12%، وثالثة بأقل من 0.5% ، فأُعيد النظر في موقع اللافتات وعمل خطة سنوية لذلك بناء على بيانات السنة السابقة؛ ما أدى إلى زيادة مبيعات الخدمات بستة أضعاف.
المشهد الخامس: درس كندي في الشعور بروح الفريق
كانت الخبيرة الكندية ذات السبعين المدير المباشر لأربعة مستشارين شباب. لاحظت أن تواصل المعلومات بينهم ليس بالمستوى المطلوب، فجاءتهم ذات صباح ورسمت جدولًا على السبورة يوضح رأسيًا أسماء المستشارين الأربعة، وأفقيًا أيام الأسبوع. تأتي الخبيرة في نهاية كل يوم لتسأل كلًا منهم بمفرده، ماذا اكتسبت من معلومات من زميلك ؟. وعلى ضوء الإجابة تضع علامة (صح) في خانة من أعطى المعلومة لزملائه. وبنهاية الشهر كان هناك تقييم وحوافز مالية لكل مستشار، تتناسب مع عدد ونوعية المعلومات التي أعطاها لزملائه. وبالرغم من قيامها بإلغاء الحافز المالي فيما بعد، لكنهم اعتادوا على مشاركة المعلومات بمكاتبهم الخالية من الحواجز والفواصل.
تم استيعاب الدرس؛ حيث لم يعد لدى أحد معلومة يخفيها عن زملائه. ازداد التواصل بينهم، وازداد معه الشعور بمعنى روح الفريق والولاء للمؤسسة التي يعملون بها؛ ما انعكس إيجابيًا على الإنتاجية، وعلى حجم ونوعية الخدمات المقدمة.
المشهد السادس: اجـتـمـاع الأســئـلــة الأربـعـة
أعجبتني فكرة قرأتها في كتاب “دع القلق وابدأ الحياة” لـ ديل كارنيجي، وطبقتها بنفسي. كنت أعقد اجتماعات يومية لفريق العمل الذي أقوده كمدير للحاضنة التكنولوجية للمشروعات الصغيرة في جامعة المنصورة. ورغم محاولاتي اختصار زمن الاجتماعات، إلا أن حماس الشباب وكثرة الموضوعات المطروحة تستهلك الكثير من الجهد والوقت. لذلك طلبت من كل شخص قبل أي اجتماع إعداد ورقة صغيرة بها أربعة أسئلة مع إجاباتها:
1- ما هي المشكلة (أو الموضوع)؟، 2- ما أسبابها ؟، 3- وما هي الحلول الممكنة ؟ 4- وما أفضل حل لها من وجهة نظرك ولماذا؟. الاجتماع الذي كان يستغرق عادة من ساعتين إلى ثلاث ساعات أصبح لا يتعدى نصف ساعة، بعد الالتزام بأجندة الاجتماع، وطرح الأسئلة وإجاباتها، وحسم الأمور، واتخاذ القرارات المناسبة فورًا.
المشهد السابع: اضحـك الصورة تطلع حـلـوة
بعد سنوات الغربة، عاد صديقي إلى مصر ووضع تحويشة عمره في مشروع تصنيع وبيع أثاث خشبي. وجد أن هناك المئات من المعارض في نفس المدينة تعرض كلها أصنافًا متقاربةً. ولأن صديقي طموح، فقد وفر كاميرا حديثة بالمعرض يستخدمها عندما يأتي الزبائن ويعجبهم موديل معين. يتلقفهم بعين خبير ويعطي إشارة معينة لأحد العاملين لتصوير صور لأجمل الأركان والمشغولات بهذا الموديل ولا يمنع أن يكون الزبائن داخل (الكادر). وفي خلال دقيقتين تكون الصور مطبوعة على ورق خاص، يُثبَّت خلفها لاصق معد سلفًا به اسم المعرض وصاحبه وهواتفه. اتصل بي صديقي مؤخرًا؛ ليخبرني أن 70 % إلى 80% ممن يزورون المعرض ومعهم صور الموديل الذي أعجبهم يعودون مرة أخرى وهي نسبة لم يكن يحلم بها. ويضيف أن البعض بدأ يقلده، ولكن بعد أن ثبت أركانه بالسوق.
المشهد الثامن: صـهر المعادن ببدلة وكرافـتـة !!
لم أتوقع أن تنقلب المزحة التي أخبرت بها العاملين في أحد المسابك إلى حقيقة جلية. عندما زرت هذا المسبك رأيت هذا التلوث المفزع؛ حيث لا تكاد ترى ملامح العمال بسبب السواد الناجم عن دخان الحريق اللازم لصهر المعادن، والمتولد من زيت التبريد لمحرك السيارة والمنتهي استعماله، وينبغي دفنه بصورة آمنة، أو يُعاد تصنيعه وتحويله لمنتجات أخرى.
يهوَى المسبك لعبة القط والفأر مع إدارة الأمن الصناعي في المنطقة، محضر هنا، غرامة هناك، إغلاق مؤقت. كنت أمزح حينما خاطبت العاملين في خضم هذا التلوث قائلًا: سوف أجعلكم ترتدون بدلة وكرافتة وأنتم تعملون في هذا المسبك. شرعت بالمساعدة في تصميم وحدة احتراق تعمل باسطوانات غاز البوتاجاز العادي جنبًا إلى جنب مع مضخة هواء يتم ضبطها. أخيرًا، كان هناك اشتعال كامل بدون عادم أو دخان أو تلوث، فقام العمال بطلاء المسبك باللون الأبيض بدلًا من السواد الذي كان يغطي كل شيء، كما فاجأني أحد العمال ونحن نحتفل بإعادة افتتاح المسبك بارتدائه بدلة حقيقية وكرافتة ليذكرني بمزحة تحققت على أرض الواقع.