رغم مضيّ ربع قرن على وفاته، لا يزال اسم عبد الله بن حمود الطريقي يتردد في أروقة التاريخ السعودي، كصوتٍ مضيءٍ يشع نورًا على مسيرة الوطن. فمنذ رحيله، وذكرى الرجل لا تفارق ذاكرة أبناء وطنه، ولن تنسى الأجيال القادمة قصته المشرفة، ومسيرته الحافلة بالإنجازات.
لقد كان “الطريقي” نموذجًا للشاب الطموح المثقف، الذي آمن منذ صغره بأهمية العلم والمعرفة. فغرس حب التعلم بنفسه، وسافر وتغرب في سبيل تحصيل العلم، متسلحًا بعزيمة لا تلين، وعقل يقظ يبحث عن المعرفة. وعندما اختار تخصص الجيولوجيا، كان ذلك اختيارًا مدروسًا. فكان يرى في المستقبل الباهر لصناعة البترول بالمملكة، فرصةً ذهبيةً لخدمة وطنه.
وعند عودته إلى أرض الوطن، ومع توليه مسؤوليات كبيرة في إدارة شؤون النفط. أدرك “الطريقي” حجم التحديات التي تواجه قطاع البترول السعودي. ورأى بوضوح كيف تستغل الشركات الأجنبية ثروات البلاد، دون مراعاة لمصالح الشعب السعودي. فكان حريصًا على وضع حد لهذه الممارسات، ووضع استراتيجية وطنية للصناعة البترولية، تسهم في تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة للوطن.
نشأة عبد الله بن حمود الطريقي
في بلدة الزلفي -تلك الحاضنة للتاريخ العريق والعقول النيرة- ولد عبد الله بن حمود الطريقي في 19 يناير عام 1918م. نشأ “عبد الله” بـكنف أسرة كريمة، وتلقى تعليمه الأول بعلوم القرآن الكريم على يد الشيخ محمد بن عمر، الذي غرس فيه حب العلم والمعرفة.
ولم يكتفِ عبد الله بن حمود الطريقي بعلوم الدين، بل طمح إلى آفاق أرحب، فغادر دياره في سن مبكرة، متوجهًا إلى الكويت. حيث واصل تعليمه في المدارس الحكومية هناك. وبعد فترة وجيزة قضاها بالكويت، انتقل للهند؛ ليعيش ويعمل. قبل أن تتغير مجريات حياته تمامًا عندما ذهب في بعثة دراسية إلى مصر.
جامعة القاهرة
في مصر، التحق “الطريقي” بمدرسة الخديوية الثانوية بـ”حلوان”، ثم انتقل إلى جامعة القاهرة (جامعة الملك فؤاد آنذاك)؛ ليدرس الكيمياء. كانت هذه الجامعة العريقة المنطلق الحقيقي لمسيرته العلمية. حيث استطاع “الطريقي” أن يثبت تفوقه وتميزه في دراسته؛ ليخرج منها حاملًا شهادة في الكيمياء، مزودًا بالعلم والمعرفة التي ستكون أساسًا لبناء مستقبله الزاهر.
ولم تتوقف رحلة عبد الله بن حمود الطريقي عند حدود مصر، فقد لفتت عبقريته ونشاطه أنظار الملك عبد العزيز آل سعود، الذي رأى فيه قدرات استثنائية. فبعثه إلى الولايات المتحدة الأمريكية لاستكمال دراساته العليا في مجال الجيولوجيا وهندسة البترول، إيمانًا بأهمية هذا المجال الحيوي في مستقبل المملكة.
وعلى الفور توجه عبد الله الطريقي إلى الولايات المتحدة، والتحق بجامعة تكساس؛ حيث حصل على درجة الماجستير في الجيولوجيا، المجال الذي سيصبح لاحقًا محط اهتمامه وعمله الرئيس. ولم يكتفِ “عبد الله” بهذا الإنجاز، بل أضاف إلى مسيرته الأكاديمية دراسة هندسة البترول كتخصص فرعي. كما خضع لتدريب مكثف في عدد من الشركات النفطية الرائدة هناك، واستمر عدة أشهر. وكان هذا التدريب صقل لمهاراته وقدراته، وأعده جيدًا للمسؤوليات الكبيرة التي ستنتظره في المستقبل.
خدمة ديني ثم مليكي ووطني
في إحدى المناسبات التي جمعت حشدًا من المهتمين، أجاب الشيخ عبد الله الطريقي -رحمه الله- على سؤال حول الدافع وراء اختياره لدراسة هندسة النفط بمقولته الملهمة: “إن الهدف من التحاقي بكلية العلوم والجيولوجيا، هو خدمة ديني ثم مليكي ووطني، ولا سيما أن البترول الثروة الطبيعية التي أنعم الله تعالى بها على المملكة العربية السعودية بعد نعمة الإسلام ووجود الحرمين فيها”. هذه الكلمات البسيطة تكشف عن رؤية وطنية عميقة لدى هذا القائد، الذي آمن بأن العلم والمعرفة السبيل الأمثل لخدمة دينه ووطنه.
وعام 1948م، عاد الشيخ عبد الله الطريقي إلى أرض الوطن، حاملًا معه علمًا ومعرفة واسعتين، وعازمًا على خدمة وطنه. وقد تقلد الكثير من المناصب القيادية في قطاع النفط السعودي. بدأ مسيرته كمدير لمكتب مراقبة شؤون البترول في المنطقة الشرقية، والذي كان يتبع وزارة المالية آنذاك. ثم انتقل إلى جدة؛ حيث عين مديرًا عامًا لشؤون الزيت بموجب قرار وزاري صدر في عام 1374هـ.
قيادة حقيقة البترول
وفي خطوة تاريخية، صدر المرسوم الملكي الكريم رقم 37 في الأول من يوليو عام 1960م، بتعيين الشيخ عبد الله بن حمود الطريقي وزيرًا للبترول والثروة المعدنية. جاء هذا التعيين بعد فصل وزارة البترول عن وزارة المالية؛ ليعكس الاهتمام المتزايد بقطاع النفط كركيزة أساسية للاقتصاد السعودي.
أما ستينيات القرن الماضي، شهد المشهد السياسي السعودي دفعة قوية نحو الإصلاح، وكان “الطريقي” أحد أبرز رموزه. وخلال فترة توليه وزارة البترول، التي لم تتجاوز السنة والربع. نجح في إحداث تحول جذري بمسار الصناعة النفطية السعودية، متسلحًا برؤية ثاقبة وإرادة حديدية.
أولى الإصلاحات التي اهتم بها “الطريقي” كانت إعادة صياغة الاتفاقيات البترولية مع الشركات الأجنبية العاملة بالسعودية. وذلك بهدف استعادة جزء كبير من الحقوق المسلوبة للشعب السعودي في ثرواته الطبيعية. كما أعاد هيكلة وزارة البترول، مع التركيز على بناء كوادر وطنية مؤهلة للعمل في هذا القطاع الحيوي. حيث أشرف بنفسه على تدريب وتأهيل الشباب السعودي.
الانضمام إلى “أرامكو”
وقبل توليه حقيبة وزارة البترول، كان للشيخ عبد الله الطريقي بصمة واضحة في قطاع النفط السعودي. عام 1959م، أصبح هو والسيد حافظ وهبة أول سعوديين ينضمان إلى مجلس إدارة شركة “أرامكو”؛ ما مهد الطريق لزيادة التمثيل السعودي في صنع القرارات المتعلقة بالثروة النفطية للمملكة.
وخلال عمله بشركة “أرامكو” دخل في الكثير من الخلافات مع الشركة الأم بالولايات المتحدة. التي كانت نابعة من إيمانه الراسخ بأهمية السيادة الوطنية على الثروات الطبيعية، وضرورة زيادة حصة المملكة من أرباح النفط.

ولادة منظمة “أوبك”
ولم يقتصر دور الشيخ عبد الله الطريقي على المستوى المحلي، بل امتد إلى الساحة الدولية. فقد كان من المؤسسين الأوائل لمنظمة الدول المصدرة للنفط “أوبك”، والتي كانت قوة ضاربة للدول المنتجة للنفط في مواجهة الشركات العالمية الكبرى. كما أسهم في تأسيس المنظمة العربية للبترول “أوابك”؛ ما عزز التعاون العربي في مجال الطاقة.
وتميز الشيخ عبد الله الطريقي برؤيته المستقبلية؛ حيث كان من أوائل الذين طالبوا بالاستفادة من الغاز الطبيعي المصاحب للنفط، بدلًا من حرقه. وقد أدرك أهمية هذه الثروة الطبيعية في تنويع مصادر الطاقة، وتوفير الطاقة اللازمة للصناعات والمشاريع التنموية.
جائزة “نيشان فرانسيسكو”
في اعترافٍ عالمي بإسهاماته الجليلة في صناعة النفط والتنمية العربية، حصل الشيخ عبد الله الطريقي على جائزة “نيشان فرانسيسكو” المرموقة من جمهورية فنزويلا في عام 1960. هذه الجائزة، التي تحمل اسم أحد أبطال الاستقلال في أمريكا اللاتينية، تمنح تقديرًا للإنجازات البارزة بمجالات العلوم والتقدم والعلوم الإنسانية.
جائزة تحمل اسمه
وتخليدًا لذكرى الشيخ عبد الله الطريقي، واعترافًا بدوره المحوري في صناعة النفط والتنمية العربية، خصصت جائزة باسمه تمنح كل عامين. وهي كشهادة تقدير لشخصية بارزة حققت إنجازات كبيرة بمجال التنمية العربية، لا سيما في قطاع النفط.
بينما يتم اختيار الفائز بجائزة الشيخ عبد الله الطريقي وفق معايير دقيقة؛ حيث ترشح مؤسسات مختلفة الشخصيات المؤهلة، مثل: الجمعيات العلمية والمهنية، ومراكز الدراسات العليا. وتعتمد عملية الاختيار على تقييم إنجازات المرشحين بمجالات التنمية والنفط، مع التركيز على إسهاماتهم في تطوير المجتمعات العربية.
وتبلغ قيمة جائزة الطريقي 25 ألف دولار، وهي ليست مجرد مبلغ مالي، بل هي شهادة تقدير عالمية للإنجازات التي حققها الفائز. كما أنها تعكس أهمية الدور الذي يؤديه قطاع النفط في التنمية الاقتصادية والاجتماعية للدول العربية.
باختصار، كان الشيخ عبد الله الطريقي قائدًا استثنائيًا، تمكن من توظيف خبراته العلمية والمعرفية لخدمة وطنه. لقد تجاوز دوره كوزير للبترول، ليصبح رمزًا للقيادة الحكيمة والرؤية الثاقبة. إرثه يعيش في كل قطرة نفط تخرج من آبار المملكة، وكل مشروع تنموي يشيد على أرضها.