المسؤولية الاجتماعية للشركات مفهوم إشكالي، وعصي على التحديد في كثير من الأحيان، ليس من جهة تقديم تعريف جامع مانع له فحسب، وإنما من جهة مصدره ومنشأه، وبمعنى آخر فإن البحث في «جينالوجيا المفهوم»؛ أي أصوله الأولى، لا تقود إلا إلى الإرباك.
فثمة طائفة واسعة من المختصين ترى أن المسؤولية الاجتماعية للشركات ليست إلا إحدى الحيل الذكية للنظام الرأسمالي؛ إذ حاول الاستفادة من نقاده _وهو ماهر في ذلك على أي حال_ فأتى بمصطلح جديد يضمن له الاستمرار في مراكمة الأرباح، مع تقديم بعض المنافع والخدمات (الضئيلة للمجتمع)؛ أملًا في تكريس الربح وتعظيم المنفعة.
وثمة آخرون يرون أن المسؤولية الاجتماعية للشركات ليست إلا البقية الباقية من التشكيلة الاشتراكية التي رفعت في كثير من الأحيان شعار «من كلٍ حسب طاقته إلى كلٍ حسب حاجته»، وأن هذا المفهوم ليس إلا دليلًا على انخراطنا في نسق اقتصادي جديد لا علاقة له بكل ما سبقه من أنساق ونظم اقتصادية.
وعلى الناحية الزمنية يمكن القول إن مفهوم المسؤولية الاجتماعية بدأ في الذيوع والانتشار بداية من ستينيات القرن الماضي، ثم بدأ المفهوم في الانتشار _وبالطبع تم تقديم العديد من التعريفات له_ إلى أن أصبح أقرب ما يكون إلى مفهوم دعائي أكثر منه نظرية اقتصادية/ اجتماعية.
اقرأ أيضًا: التسويق الأخضر.. طوق نجاة القرن 21!
ما هي المسؤولية الاجتماعية؟
وثمة تعريفات جمة للمسؤولية الاجتماعية، سبق أن رصد «رواد الأعمال» بعضًا منها؛ حيث عرفها Durker بأنهـا “التزام المنشأة تجـاه المجتمـع الـذي تعمـل فيـه”، فيما ذهب Holmer إلى أن المسؤولية الاجتماعية هي التزام المنشأة تجاه مجتمعها بالمساهمة بأنشطة اجتماعية متنوعة؛ مثـل محاربـة الفقـر، تحسين الخدمـة، مكافحـة التلـوث، توفير فـرص عمـل، وحـل مشـكلة الإسكان والمواصلات، وغيرها.
أما Robbins فقد ميّز بـين المسؤولية الاجتماعية social responsibility والاستجابة الاجتماعيــة Responsiveness social ، فالأولى ترتكز علــى اعتبــارات أخلاقيــة بالنظر إلى نهايات أهدافها على أنها التزامات بعيدة المدى، بينما تعني الأخرى الرد العملي _عبر آليات ووسائل مختلفة_ على ما يجري من تغيرات وأحداث اجتماعية على المديين المتوسط والقريب.
وفي السياق ذاته يرى الباحثـان (flores and chang) أن المسؤولية الاجتماعية للشركات هي التـزام متخـذ القـرار بانتهـاج أسـلوب عمـل يـؤمِّن مـن خلالـه حمايـة المجتمع وإسعاده وتحقيق منفعته الخاصة.
ويرى رجل الاقتصاد المعروف (Paul Samuelson) أن المسؤولية الاجتماعية تمثل البعدين الاقتصادي والاجتماعي معًا، وأن الشركات يجب ألا تكتفي بالارتباط بالمسؤولية الاجتماعية، بل تغوص في أعماقها، وتُبدع في تبنيها.
ويعرفها الاتحاد الأوروبي بأنها مفهوم تقوم الشركات بمقتضاه بتضمين اعتبارات اجتماعية وبيئية في أعمالهم، وفي تفاعلها مع أصحاب المصالح على نحو تطوعي، وأنها مفهوم تطوعي لا يستلزم سن قوانين أو وضع قواعد محددة تلتزم بها الشركات.
اقرأ أيضًا: التدقيق الاجتماعي.. مقياس أداء فعّال
نتاج أزمة
وبعد أن طوّفنا حول التعريفات المختلفة لمفهوم المسؤولية الاجتماعية علينا أن نشير إلى أن الأمر المهم في كل هذا أن ذلك المفهوم كان نتاج أزمة؛ أي أنه أتى نتيجة وجود خلل في النسق الاقتصادي، سواء من الناحية النظرية أو من ناحية الممارسة، ذاك الخلل الذي تسبب في أضرار جسيمة بالبنية الاجتماعية لكثير من المجتمعات، ومن ثم تم الدفع بهذا المفهوم ليكون مخرجًا من الأزمة.
والحق أن الخلل في الأنساق الاقتصادية ليس وحده الدافع وراء ظهور المسؤولية الاجتماعية للشركات على السطح، وإنما كانت هناك اعتبارات بيئية ومناخية _ مثل ثقب الأوزون، الاحتباس الحراري، شح الموارد.. إلخ _ أدت أيضًا إلى ظهور وانتشار هذا المفهوم.
ناهيك عن أن أحد الدروس الأساسية للقرن الحادي والعشرين _كما قد نفهم من أطروحات ريتشارد سينيت وإدغار موران_ أن أحدًا لن يمكنه العيش بمفرده، وأن الكوكب برمته متلاحم ببعضه بفعل تلك الآثار العولمية وثورة الاتصالات، ومن ثم فإن الجميع مدعو إلى المشاركة في رفع الضرر، ووقف مسير “مركبتنا الأرضية” _والتعبير لـ إدغار موران_ إلى الهاوية.
اقرأ أيضًا: الاتصال المؤسساتي.. كيف يُعزز فكرة “الخير العام” ؟
النفع المتبادل
أحد الأشياء التي تجعل المسؤولية الاجتماعية طرحًا منطقيًا ومقبولًا أنها نموذج الجميع فيه رابح، صحيح أن هذا أحد تجليات فلسفة الحلول الوسط التي تتبناها الرأسمالية دومًا، لكن المؤكد أن أحدًا لن يخسر بتبنيه قيم وقواعد المسؤولية الاجتماعية.
فالشركة التي تلتزم بهذا النموذج الاقتصادي/ الاجتماعي تحظى بسمعة طيبة في المجتمع الذي تعمل فيه، وبالتالي فإنها تكون قادرة على تحقيق معدلات مبيعات أعلى من غيرها، علاوة على أنها ستكون أقدر من غيرها على اجتذاب المواهب والكفاءات؛ لاسيما أن جيل الألفية أكثر وعيًا بمفهوم وأهمية المسؤولية الاجتماعية.
وليس بخافٍ على أحد تلك المنافع والآثار الإيجابية التي يمكن للمجتمع ككل أن يجنيها نتيجة العمل على هذا النموذج، وهي منافع ذات أمد قصير ومتوسط وبعيد؛ لذا فإن المسؤولية الاجتماعية مبدأ يسوق نفسه بنفسه دون جهد أو عناء.
اقرأ أيضًا:
الصورة الذهنية للشركات.. وسيلة فعّالة لجذب المستهلكين
التسويق المستدام.. استراتيجية ثلاثية الأبعاد
أهداف الشركات.. هل الربح هو الأساس؟