إنَّ المتأمل في إعجاز الله سبحانه وتعالى في العقل البشري، حتمًا سيجد ما يدهشه من قوة وقدرة هذا العقل الجبار، لكن لابد أن ننتبه لشيء خطير هنا؛ فليس كل ما تعرضه علينا عقولنا هو الصواب دائمًا، فعقولنا تخزن تفضيلات تربينا عليها أو اكتسبناها من محيطنا، رغم أنها قد تكون غير مجدية، بل هناك ما هو أفضل منها.
وكمثال على ذلك: طُرح السؤال التالي في أحد الاستبيانات: لو خُيِّرت لمدة شهر واحد في أن نعطيك يوميًا عشرة آلاف ريال، أو أن نعطيك في اليوم الأول هللة واحدة، وفي اليوم الثاني الضعف؛ هللتين، وفي الثالث الضعف؛ أربع هللات، وهكذا، فأيهما تختار؟
من منظور الرياضيات التي لا تعرف المزاح، فإن الخيار الأول سيكسبك في نهاية الشهر 300 ألف ريال، بينما يكسبك الخيار الثاني في نهاية الشهر، خمسة ملايين و400 ألف ريال!
والغريب، أنه وفق الاستبيان، اختار أكثر من 80% الخيار الأول، فيما اختار 20% الخيار الآخر! وتحليلًا لهذا الخطأ الذي أوقعتنا به عقولنا، فإن ذلك كان بسبب بناء التفضيلات غير الصحيحة، وعدم التفكير فيما وراء الأمور؛ فظاهر الإجابة الأولى أكثر إغراءً؛ لأننا عودنا عقولنا على التفكير بطريقة تقليدية، ربما كانت مثالية في أزمنة ماضية، لكنها الآن لا تناسب هذا الزمان.
النمو الخطي
التفكير وفق الإجابة الأولى، يُدعى في عالم الرياضيات بالنمو الخطي؛ وهو بسيط وواضح المعالم وسهل الحساب، فهناك زيادة ثابتة مضروبة في عدد أيام ثابت؛ ما يحقق نموًا ثابتًا من البداية وحتى النهاية؛ وهو ما كان يفكر به أجدادنا الذين كان معظمهم يعمل بمزرعة لمدة ساعة ليجني كمية محددة من المحصول، ولو عمل ساعتين سيجني الضعف، وهكذا ببساطة.
تفكير الأثرياء
أما الطريقة الأخرى، فهي تفكير أهل الأرقام والمال والأعمال والريادة والثراء والمشاريع التي تميز بها عصرنا الحاضر، إنه التفكير الجامح رياضيًا، والذي يُعرف بالنمو الأُسِّي؛ وهي طريقة حساب مخيفة، كما عبر عنها عالم الرياضيات ” كاركاج سكي”، الذي أجرى تجربة النمو الأُسِّي على ورقة A4 ؛ إذ قام بثني الورقة وحساب سماكتها بعد الثني، والتي لم تتجاوز عشر مليمترات؛ ليكتشف رقمًا فلكيًا مخيفًا يساوي 150 مليون كم، لو استمر ثني الورقة خمسين مرة فقط، إنه نفس رقم المسافة من الأرض إلى الشمس!
توظيف الغير
غالبًا ما نظن أن الحياة تعمل ضمن نمطية معينة، وفق المثل القائل: “ستجني من الحياة ما زرعته فيها” ، وينص جوهر الفكرة على أن كل جهد قد تبذله فيما أُسند إليك، ستحصده بالمقابل؛ وهذا هو النمو الخطي التقليدي، ولكن الحياة لا تسير بالضرورة على هذه الوتيرة، فلا ننكر أن العمل الجاد أمر ضروري، لكن يمكن أن نجني أضعاف ما يمكن أن نجنيه من العمل الجاد من غير عمل جاد أصلًا، بل عن طريق توظيف الغير؛ ليؤدي المهمة نيابةً عنَّا؛ وهذا ما فهمه رواد الأعمال بما يعرف بالنمو الأُسِّي المذهل.
الثراء الكبير
إذا كنت عزيزي رائد الأعمال، تتوقع أن تسير حياتك ضمن نمطية معينة، فستجد نفسك حائرًا ومحبطًا، ومهمشًا بعد سنوات من العمل المُضني الجاد، الذي كنت تتوقع أنه الطريق الصحيح لتحقيق النجاح والثراء، لتتفاجأ بأن نظراءك ممن استخدموا عقولهم بدل عضلاتهم ونمطيتهم، قد تجاوزوك بمراحل.
وهذا ما يفسر لنا الثراء الكبير، الذي حققه بعض رواد الأعمال خلال فترة وجيزة، الذين أدركوا هذا الأمر وطبقوه، أو لبعض المشاهير عبر مواقع التواصل الاجتماعي الذين وصلوا لشهرة مذهلة خلال أشهر وبجهد بسيط، بينما استغرق الأمر من مشاهير الأزمة الماضية، سنوات وسنوات طويلة من العمل الجاد.
مكاسب سريعة
يتقدم النمو الأُسِّي ببطء في البداية، لكن المكاسب تصبح سريعة وأسهل مع مرور الوقت. وهناك كثير من الأمثلة لعلى النمو الأُسّيّ في الحياة اليومية؛ مثل:
- الاستثمار وبناء الثروة: حيث تبدأ الفائدة المركبة صغيرة في السنوات الأولى، ثم تتنامى بشكل متسارع في السنوات التالية.
- مستخدمو البريد الإلكتروني، وتجارة المواقع على الإنترنت: حيث يكون الزوار في البداية قليلين، لكن يأتي الزبون الراضي فيخبر غيره وشيئًا فشيئًا يتم الوصول لعدد كبير من الزوار والمشتركين.
- نمو التجارة، وريادة الأعمال: حيث أن الأصول التي تمتلكها من تجارتك تتراكم فوق بعضها البعض، وتتضاعف إيراداتك مدى الحياة؛ بسبب مشروع تجاري ناجح، يلبي حاجة العملاء الذين يتحولون لمسوقين بالمجان لهذا المشروع.
- متابعو مواقع التواصل الاجتماعي: إذا كان لديك مائة متابع، فوصولك لمائة متابع آخرين قد يستغرق ستة أشهر، لكن بمجرد أن يصبح لديك ألف متابع ستحتاج إلى شهر واحد لتحصل على مائة متابع إضافي. وعندما يصبح لديك مائة ألف متابع، قد يستغرق حصولك على مائة آخرين يومًا واحدًا فقط، وهكذا؛ يتضاعف معدل نموك بسرعة.
إن اللعب بطريقة مختلفة، والبدء بالمهمة التي لها منحنى نمو عالٍ، استراتيجية فاعلة بشكل جيد للمهام ذات المنحنى الأُسِّي، وريادة الأعمال مثال على ذلك، فيمكن بناء متجر إلكتروني لسلعة منتقاة بعناية، ومن خلال إعطاء الوقت الكافي للخروج بمنتج جيد، يخرج في النهاية منتج مرضٍ للعميل، ومن ثَمَّ العمل على تطوير خطوط جديدة للإنتاج، وبناء الأصول التي تساعد على الوصول إلى النمو الأُسّيّ بعد سنوات.
وإذا لعبت لعبة مختلفة من ألعاب ريادة الأعمال، وبدأت مثلًا في شركة برمجيات، فربما ستصل إلى بداية النمو الأُسِّي بسرعة أكبر؛ بسبب انخفاض التكاليف؛ ما يسهم في نمو الشركات البرمجية بشكل أسرع، وتكوين هوامش ربح أكبر.
إنَّ معظم الأمور في حياتنا المعاصرة، لا تسير بطريقة نمطية ثابتة، كما كانت في الماضي؛ إذ نادرًا ما يكون النمو ضمن خط مستقيم؛ لذا يجب على رواد الأعمال فهم نوع المنحنى الذي يتعاملون معه؛ كي يتمكنوا من تحديد توقعاتهم على نحو ملائم، فإذا لم نكن سعداء بنوع منحنى النمو الذي نحن عليه، فعلينا خوض لعبة تتبع طريقة نمو نحبها.