يبدو أن نجاح رواد الأعمال بعد الفشل ليس مجرد حظ عابر، بل هو نتاج لمزيج معقد من الصمود النفسي والدروس القاسية المستخلصة من التجارب المريرة. وعادةً ما يواجه مؤسسو الشركات الناشئة ضغوطًا هائلة لتحقيق النجاح،
ومع ذلك يكمن التحدي الأكبر ليس في الإخفاق ذاته، بل في القدرة على التخلي عن مشروع فاشل وتحقيق نهضة حقيقية تضمن نجاح رواد الأعمال بعد الفشل المدوي.
ولطالما كانت عملية تأسيس الشركات الناشئة محفوفة بالمخاطر والغموض. فمنذ عام 1994 ظل معدل بقاء الشركات الصغيرة لمدة خمس سنوات في الولايات المتحدة يحوم حول نسبة تزيد بقليل على 50%، وفقًا لبيانات مكتب إحصاءات العمل الأمريكي.
وبحلول عام 2018 بلغ معدل البقاء لمدة خمس سنوات 57.3%. ما يؤكد أن الإخفاق هو قاعدة وليست استثناءً في هذا العالم، ولكنه لا يمنع نجاح رواد الأعمال بعد الفشل.
استخلاص الدروس من الألم
يدرك رائد الأعمال إسماعيل داينهين جيدًا الشعور القاسي بالإخفاق. إذ قضى أكثر من عقدٍ كامل في هذا المجال المضطرب. وخلال مسيرته أسس عدة شركات؛ فشلت اثنتان منها تمامًا. ثم تكللت ثلاث أخرى بالنجاح المالي، ومؤخرًا شارك في تأسيس شركته الجديدة “إيفرجيف”.
وهي منظمة غير ربحية تستثمر في البيتكوين لزيادة العائد على التبرعات؛ ما يمثل نموذجًا لنجاح رواد الأعمال بعد الفشل.
وصف داينهين إخفاقاته الأولى -عندما أُغلقت شركتاه خلال بضع سنوات- بأنها كانت تجربة مؤلمة للغاية؛ حيث صرح قائلًا: “كنت أشعر بضغط نفسي هائل فرضته على نفسي بسبب وضعي المالي الشخصي. لم يكن أحد قادرًا على أن يضغط عليّ أكثر مما كنت أفعل بنفسي آنذاك”.
وأضاف أنه تمكن من استخلاص الدروس الجوهرية من تلك الإخفاقات. ما مهد لمشاريعه اللاحقة لتحقيق إيرادات بملايين الدولارات قبل أن يخرج منها.
ثقافة العمل المفرط وفقدان المعنى
يشار إلى أن العمل في تلك الشركات الناجحة الأخيرة بدأ مع الوقت يبدو لداينهين “خاليًا من الروح ويفتقد المعنى”. وغالبًا ما تباع فكرة ريادة الأعمال على أنها حياة مثالية تحرّر صاحبها من القيود البيروقراطية والسياسة المؤسسية الموجودة في عالم الشركات.
لكن المفارقة أن هذه الريادة أصبحت في العقود الأخيرة مرادفًا لما يعرف بثقافة “العمل المفرط”. ففي وادي السيليكون يمجَّد نمط العمل لسبعة أيام أسبوعيًا. بينما تعرف الشركات التقنية الصينية بثقافة 996؛ أي العمل من التاسعة صباحًا حتى التاسعة مساءً، ستة أيام أسبوعيًا.
وهنا يطرح السؤال الجوهري: كيف يستطيع المؤسسون، الذين اعتادوا حياة ضاغطة ومليئة بالتحديات، النهوض من جديد بعد الإخفاق الكامل؟
الخسارة النفسية وخذلان الموظفين
لا شك أن تجاوز فشل شركة ما يتطلب أولًا الاعتراف الصريح بالأخطاء التي ارتكبت. ومن ثم مواجهة خيبة أمل الآخرين، سواء كانوا موظفين مخلصين أو مستثمرين وثقوا بالرؤية. تلك المواجهة تشكل الجانب الأصعب نفسيًا من التجربة.
وفي هذا السياق أسس كلاس أردينوا شركة تطوير البرمجيات CommVision في المملكة المتحدة عام 2024. لكنها أغلقت أبوابها بعد عام واحد فقط. وصرّح “أردينوا” بأن أصعب ما واجهه نفسيًا هو خذلان المستثمرين الذين وثقوا به. واضطراره إلى تسريح الموظفين الذين انقلبت حياتهم رأسًا على عقب بسبب قراره.
سوء التوافق ودروس الإغلاق
وأوضح أردينوا، الذي يُرجع فشل شركته إلى سوء توافق المنتج مع السوق وخداعه من قبل إحدى شركات رأس المال المخاطر، أنه أقنع موظفين من شركته السابقة بالانضمام إلى مشروعه الجديد. هذا الوضع زاد من مرارة الفشل وتبعاته الشخصية.
وأضاف أردينوا بأسى: “من الصعب جدًا أن تصل إلى لحظة الاعتراف بأن عملك يفشل، ثم التعامل مع تبعات ذلك. أن تدرك أنك على وشك تغيير حياة أشخاص بطريقة قاسية”.
وتابع: “لم يكن الأمر قابلًا للتفاوض. قلت لهم: أمامكم أربعة أسابيع، وأنا أعلم أنكم تحت ضغط مالي لأنكم اشتريتم منزلًا وأنتم على وشك استقبال طفل، وهذا ما جعل الموقف مؤلمًا جدًا”.
الإرهاق وأزمة الهوية
وعلى جانب آخر مرّ أينارس كلافينز من لاتفيا بتجربة الإرهاق الشديد. حيث أسس وكالة الواقع المعزز Overly عام 2013، وكادت أن تفلس مرتين.
ورغم أنه تمكن من إنقاذها وتحقيق إيرادات بلغت 1.5 مليون يورو في عام 2022، فإنه استقال بسبب الإرهاق. ثم منح حياة الشركات الناشئة فرصة جديدة، فاستثمر 500 ألف يورو في مشروعه التالي، لكنه غادره عام 2024 بعد تعثره.
ويعمل كلافينز الآن مديرَ منتجات في شركة “Giraffe360” العقارية الناشئة. موضحًا أنه مرّ بأزمة هوية حادة بعد الانتقال من مؤسس إلى موظف في شركة.
وقال: “عندما تغادر شركة فاشلة.تبدأ حقًا بالتساؤل: ما الذي أجيده؟ في تلك اللحظة شعرت بأنني لا أجيد أي شيء”.
عقوبة الريادة والتميز المؤسسي
قد يشعر المؤسسون العائدون إلى الحياة الوظيفية بشيء من العار أو الوصمة الاجتماعية. بل ربما يواجهون تمييزًا وظيفيًا من أرباب العمل.
وفي دراسة أجرتها كلية إدارة الأعمال بجامعة روتجرز عام 2024، تبين أن المجندين كانوا أقل ميلًا لترشيح رواد الأعمال السابقين للوظائف -فيما وُصف بـ “عقوبة ريادة الأعمال”- إذ بدا عليهم التردد في توظيف أشخاص اعتادوا أن يكونوا رؤساء أنفسهم ويعملون باستقلالية تامة.
لكن إخصائي العلاقات العامة ألين رابالو يرى أن المؤسسين في الواقع يمكن أن يكونوا أفضل الموظفين. إذ ترك رابالو عمله كمدير علاقات عامة في شركة كبرى ليؤسس وكالته الخاصة عام 2021. لكنه عاد إلى الوظيفة بعد ثلاث سنوات فقط.
وقال: “ريادة الأعمال ميزة في حد ذاتها. لأنك عندما تكون مؤسسًا فإنك خلال العام الأول تمارس كل الأدوار التي تؤديها أي شركة، وهذا يجعلك تفهم كل جوانب العمل”.
إعادة تعريف الفشل وقوة الرسالة
قال رائد الأعمال إسماعيل داينهين إنه كان من الضروري إعادة تعريف مفهومي النجاح والفشل بالنسبة له كي يتمكن من المضي قدمًا. موضحًا أن “الخطر الأكبر ليس الفشل، بل النجاح دون وضوح الرؤية”.
واختتم بقوله: “أهم نصيحة أقدمها لرواد الأعمال في هذه المرحلة هي أن يلتزموا بمشروع أو قضية ذات هدف ورسالة عميقة بالنسبة لهم. لأن الرسالة الضعيفة أو الانتهازية لن تحملك خلال أصعب الأيام”. مشددًا على أن نجاح رواد الأعمال بعد الفشل يتطلب رسالة صادقة تكون قادرة على تحويل الانتكاسات إلى مراحل قابلة للتجاوز.




