تشغل مسألة إعداد القيادات الشابة، اهتمام الأوساط الحكومية والخاصة، ولاسيَّما قطاع المال والأعمال والاستثمار؛ إذ تتجه الجهود إلى البحث عن أفضل السبل لتطوير الكفاءات الإدارية، وتأهيلها، وتنميتها، واستثمارها في دعم الإنتاج.
بات موضوع دور القيادة الشابة في عالمنا اليوم الشغل الشاغل لمواجهة التحديات محليًا وعالميًا؛ ما جعل الحراك الكبير في المنطقة العربية ينظر إلى مسألة القيادات الشابة باعتباره أمرًا حساسًا وهامًا؛ إذ يدور الحديث حول تعريف القائد الشاب المناسب، وكيفية تأهيله، وتحديد طرق استثماره بالصورة المطلوبة؛ بهدف صناعة نماذج شبابية مميزة.
تطوير القيادات وتطور القيادة
من الضروري أولًا، التمييز بين مفهومي تطوير القيادات، وتطور القيادة؛ فالأول هو جهود موجهة مباشرة للأشخاص، بينما يتصل الآخر بالإجراءات والثقافة السائدة في المؤسسات. وتطوير القيادة في المنظمات يعني تطوير الأنظمة فيها، وتهيئة بيئة عمل تدعم مهام القيادات، وتسهم في إيجاد آليات عمل تصنعهم على المدى الطويل؛ أما تطوير القادة فيركز على تطوير المهارات الذاتية، والارتقاء بالمعارف والخبرات الفردية، ورفع كفاءة الموظفين، وغالبًا ما يكون على المدى القصير.
ليس من السهل اكتشاف قدرات الأفراد الذين يخضعون لمعايير اختيار القادة، فالفرق كبير بين المستوى الثقافي والعلمي والفكري للفرد، وبين تجاربه العملية وخبراته المهنية؛ إذ يخفق كثيرون عند أول اختبار حقيقي عملي في مواقعهم القيادية؛ ما يدل على مدى صعوبة اكتشاف وصناعة القيادات الشابة.
صفة فطرية أم مكتسبة؟
يتساءل البعض: هل الصفة القيادية فطرية أم مكتسبة؟ أي: هل يولد القائد قائدًا، أم يمكن صناعته؟ وهل مهارة القيادة صفة شخصية أم قابلة للاكتساب؟ تضعنا هذه التساؤلات أمام فرضية أنه إذا كانت صفة القيادة فطرية؛ فهذا يعني أن محاولات تطويرها لن تكون فعّالة ولا صالحة مع من وُلِد مفتقدًا صفة القيادة، ولن يستطيع التدريب والتجاوب مع عمليات التأهيل التي يتلقاها، ولن تفيده محاولات إكسابه الخبرات لتحويله إلى قائد.
وهل هناك آلية معينة لاكتشاف النواة الأساسية في أي شخص تؤهله لأن يكون قائدًا دون إهدار الوقت والموارد لجعله قائدًا دون استعداده لذلك؟ وهل هناك اختبار لاكتشاف السمات القيادية لدى شخص معيّن من أجل توفير الحاصنة المناسبة والبيئة التي تساعده على أن يصبح قائدًا؟
مهارات خاصة
في الواقع، هناك مهارات ذاتية خاصة وقدرات معينة تؤهل البعض ليكونوا قادة بشكل عام أو في جانب محدد كالجانب العسكري أو التقني أو الرياضي أو السياسي أو غيرها، فمن الأشخاص من امتلك أساس القيادة منذ طفولته، وتأثر بنمط تربيته وتنشئته، ثم أهلته شجاعته لإبداء رأيه بوضوح؛ فالقائد يُولَد بحد أدنى من الصفات الفطرية الواجب توفرها فيه ليكون قائدًا، وفي الوقت نفسه قد يمر الفرد بظروف سيئة حالت دون تهيئته للقيادة؛ فحينها لن يكون لصفاته أي قيمة، بل إنه سيفقدها بمرور الوقت. ومن هنا ندرك أهمية تأثير دور الوالدين من خلال التربية المستمرة لإكساب طفلهما بعض الصفات القيادية خلال عملية تشكيل شخصيته، ومنها تبرز أهمية دورالتربية والمدرسة في تنمية هذه الصفات.
وليست المدرسة وحدها المسؤولة عن تشكيل أو قتل الصفات القيادية لدى الطلاب؛ لأنها جزء تعليمي تدريبي من منظومة متكاملة تضم الأسرة والمجتمع بشكل عام؛ ما يعني أن كل مهارة أو معرفة تُكتَسب من أطراف هذه المنظومة.
ندرة في القيادات
ومن الملاحظ في هذا الصدد وجود ندرة في القيادات، وضحالة في نتائج جهود البحث عنه؛ لذا يرى البعض ضرورة تدشين حاضنات لتبني القيادات وترسيخ مفاهيمها؛ كون القيادة تتشكل من جانبين فطري ومكتسب؛ ما يتطلب توفير أدوات صناعة القائد وخلق الحاضنات المُكلَّفة بصناعته.
وعمليًا، لا يعود نجاح القيادات في بيئات العمل الخاصة إلى المحفزات والعلاوات والمكافآت، أو التدريب الخاص فقط، فالقطاع الخاص يتميز بهامش أوسع من حرية الحركة والتصرف مقارنةً بالقطاع الحكومي والعام، كما يتميز أيضًا ببيئة مشجعة لصناعة قائد قادر على اتخاذ القرار؛ وذلك بخلاف القطاع الحكومي الذي يكون فيه القائد المبتكر والمتميز مُقيَّدًا بالإجراءات البيروقراطية المعقدة، والروتين الممل، وبنظام إداري لا يحيد عنه.
دور البيئة
للبيئة دور مؤثر في صناعة القادة الشباب؛ إذ يرى المختصون أنه في كثير من الحالات يعود ضعف نتائج بعض المحاولات والتجارب إلى العامل الثقافي الذي يؤثر بشكل أعمق من الاختبارات المقننة؛ لسيطرة العادات والتقاليد التي تعيق عمل القيادات.
وهناك إشارات إلى عدم مناسبة النظريات المستوردة التي تُستنسخ في مجال الإدارة والعلوم الإنسانية؛ لأنها نابعة من مجتمعات لها خصوصيتها الثقافية، ولها فلسفة في الحياة تختلف عن غيرها؛ ما يُوقِع القادة في أخطاء ليس لوجود أخطاء في النظريات المستوردة، بل لاختلاف البيئة؛ أي إن المشكلة لا تكمن في انعدام الكفاءات أو صعوبة اكتشاف المؤهلين للقيادة، وإنما لطبيعة البيئة التربوية والاجتماعية.
والسجال الحاصل اليوم يؤكد وجود فروق في النظرة إلى طبيعة المسألة؛ إذ يتشكل إحساس بوجود ضغوط على الشخص لكي يصبح قائدًا، وإلا كان غير منتج أو غير ناجح، إلا أنه من الأسلم تحفيز الإنتاجية أكثر من الحصول على المنصب، وضرورة الدفع بدعم المبادرات والإنتاجية، فالمؤسسات بحاجة إلى الإبداع وإلى المبادرين .
صبحة بغورة