لا يمكن الحديث عن ثورة الحوسبة الشخصية دون الإشارة إلى الدور المحوري الذي أداه دانيال بريكلين؛ ذلك المهندس الأمريكي الذي يُعتبر بحق “أب جدول البيانات”. إذ نجح “بريكلين”؛ بالتعاون مع شريكه بوب فرانكستون؛ في ابتكار برنامج “فيزيكالك”. وهو أول برنامج من نوعه يعتمد على واجهة مستخدم مرئية ويسهل على المستخدمين غير التقنيين تحليل البيانات وإعداد الجداول الحسابية.
هذا الإنجاز الثوري، الذي تحقق في سبعينيات القرن الماضي، مهد الطريق لتطوير برامج الجداول الحاسوبية الحديثة، مثل: إكسيل. والتي أصبحت اليوم أداة أساسية في عالم الأعمال والتعليم.
دانيال بريكلين
علاوة على هذا الأمر لم يكتف “بريكلين” بابتكار “فيزيكالك” بل واصل مسيرته كرائد أعمال وتكنولوجي بارع. فبعد تأسيسه لشركة “سوفتوير جاردن”، التي لا يزال يشغل منصب الرئيس فيها. أسس أيضًا شركة “تريليكس” التي تركها في عام 2004م. وفي الوقت الحالي يشغل منصب كبير مسؤولي التكنولوجيا في شركة “ألفا سوفتوير”. ما يؤكد استمراره في تقديم إسهامات قيّمة بمجال التكنولوجيا.
من ناحية أخرى لم يقتصر اهتمام “بريكلين” على الجانب التقني فحسب، بل امتد إلى مجال التأليف والنشر. ففي عام 2009م نشر كتابًا عن التكنولوجيا من خلال دار نشر وايلي. ما يعكس اهتمامه بنقل خبراته ومعرفته إلى الأجيال القادمة.
كما اختارته مجلة “تايم”، إلى جانب خمسة آخرين، كواحد من الشخصيات التي ساهمت في جعل الحاسوب “آلة العام” في عام 1982م. وهو اعتراف بالتأثير الكبير الذي أحدثه بعالم الحوسبة.

ولادة عبقري الجداول الحاسوبية
وُلد دانيال بريكلين يوم 16 يوليو 1951م في فيلادلفيا. ونشأ في بيئة تحفز الفضول والاكتشاف؛ حيث التحق بأكاديمية عكيبة العبرية التي غرست فيه حب التعلم والمعرفة. وبدأ رحلته الأكاديمية بدراسة الرياضيات، لكن شغفه بالكمبيوتر دفعه إلى تغيير مساره الأكاديمي. وفي عام 1973م توج جهوده بحصوله على درجة البكالوريوس في الهندسة الكهربائية وعلوم الكمبيوتر من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.
وبعد تخرجه في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا انضم “بريكلين” إلى شركة المعدات الرقمية (DEC)؛ إذ عمل على تطوير أنظمة التشغيل. ثم انتقل بعد ذلك إلى شركة FasFax. وهي شركة ناشئة في مجال التكنولوجيا المالية. ومع ذلك لم يكتف بالخبرة التقنية فحسب بل سعى إلى توسيع آفاقه الأكاديمية. ففي عام 1979م حصل على درجة الماجستير في إدارة الأعمال من جامعة هارفارد، وهو ما زوده بالأدوات اللازمة لإدارة المشاريع وتحويل الأفكار إلى واقع.
وأثناء دراسته في كلية هارفارد للأعمال طور “بريكلين”، بالتعاون مع بوب فرانكستون، برنامج VisiCalc. الذي يُعد أول جدول بيانات إلكتروني متاح بسهولة للاستخدام المنزلي والمكتبي. هذا الابتكار الثوري، الذي تم تشغيله على جهاز كمبيوتر Apple II، غيّر وجه صناعة الحاسوب بشكلٍ جذري. فقبل VisiCalc كان تحليل البيانات وإعداد الجداول الحسابية عملية معقدة تستغرق وقتًا طويلًا؛ إذ كان يتعين على المستخدمين إجراء الحسابات يدويًا.
أما مع VisiCalc أصبح بإمكان المستخدمين إدخال البيانات وتعديلها بسهولة؛ إذ يتولى البرنامج إعادة حساب النتائج تلقائيًا.
أسس الإمبراطورية من حجرة صغيرة
في أواخر السبعينيات، وبالتعاون مع بوب فرانكستون، أسس بريكلين شركة Software Arts. والتي أطلقت العنان لبرنامج VisiCalc، أول برنامج جدول بيانات إلكتروني ناجح تجاريًا. وبفضل هذا البرنامج، الذي بيعت نسخ منه بـ100 دولار للنسخة الواحدة، تحولت الحواسيب من أدوات حصرية للمبرمجين إلى أدوات أساسية للأعمال والمكاتب.
وفي عام 1981م توجت مسيرة بريكلين بحصوله على جائزة غريس موراي هوبر المرموقة، تكريمًا لإسهاماته الرائدة في مجال البرمجيات. ومع ذلك واجه تحديًا كبيرًا في تلك الفترة. وهو أن براءات الاختراع لم تكن حينها تحمي برامج الكمبيوتر فلم يستطع تسجيل VisiCalc كبراءة اختراع. وهو ما فتح الباب أمام المنافسين لتطوير برامج مشابهة.
إطلاق شركة Software Garden
في عام 1985م استحوذت شركة Lotus على Software Arts؛ ما دفع بريكلين إلى تأسيس شركته الخاصة Software Garden. وركزت الشركة الجديدة على تطوير أدوات مبتكرة للمبرمجين والمستخدمين، مثل: “Dan Bricklin’s Demo Program”، الذي سمح للمستخدمين بإنشاء عروض توضيحية لبرامجهم قبل حتى أن تتم كتابتها.
كما عمل على تطوير برامج تعليمية للبرامج المستندة إلى نظام Windows؛ ما ساهم في نشر المعرفة حول تقنيات الكمبيوتر.
ولم يتوقف “بريكلين” عند هذا الحد، فخلال التسعينيات شارك في تأسيس شركة Slate Corporation، والتي طورت برنامج At Hand. وهو جدول بيانات يعتمد على القلم. وبعد إغلاق الشركة عاد إلى Software Garden واستمر في تطوير برمجيات مبتكرة، مثل: “Dan Bricklin’s Overall Viewer”، الذي قدم طريقة مرئية لعرض المعلومات في برامج Windows.
تأسيس Trellix Corporation
بعد نجاحه المبهر مع شركة Software Garden قرر دانيال بريكلين توسيع آفاقه وابتكاراته. وفي عام 1995م أسس شركة Trellix Corporation، والتي أطلقت برنامج Trellix Site Builder الرائد في مجال إنشاء المواقع الإلكترونية. ولاقى اهتمامًا واسعًا من قبل المطورين والمصممين. ما عزز مكانة “بريكلين” كواحد من أبرز الشخصيات في مجال تكنولوجيا المعلومات.
وفي عام 2003م شهدت مسيرته منعطفًا جديدًا مع استحواذ شركة Interland (التي تُعرف الآن باسم Web.com) على Trellix Corporation. وانضم “بريكلين” إلى فريق عمل Interland وتولى منصب كبير مسؤولي التكنولوجيا؛ حيث واصل العمل على تطوير حلول مبتكرة في مجال إنشاء المواقع الإلكترونية والتجارة الإلكترونية.
ورغم انضمامه إلى Interland لم يتخل عن شركته الأولى Software Garden. حيث واصل العمل كرئيس للشركة، وركز على تطوير أدوات برمجية مبتكرة وتقديم خدمات استشارية. ومن أبرز إنجازاته في هذه الفترة إطلاق Note Taker HD، وهو تطبيق مبتكر يجمع بين الملاحظات اليدوية والرقمية على أجهزة iPad. ما يوفر للمستخدمين تجربة فريدة من نوعها.
جدول بيانات تعاوني على الويب
لم يقف بريكلين عند هذا الحد بل واصل سعيه نحو تطوير حلول مبتكرة. ففي السنوات الأخيرة سعى إلى تطوير برنامج wikiCalc، وهو جدول بيانات تعاوني يعمل على الويب. ويهدف هذا البرنامج إلى تسهيل العمل الجماعي وتبادل البيانات بين المستخدمين. وهو ما يجعله أداة قوية للأعمال والشركات.
وفي الوقت الحالي يشغل منصب كبير مسؤولي التكنولوجيا في شركة Alpha Software، والتي تقع في مدينة بيرلينغتون، ماساتشوستس. وتركّز على تطوير أدوات تسهل عملية إنشاء تطبيقات الأعمال المحمولة متعددة المنصات. وبفضل خبرته الواسعة في مجال البرمجيات يساهم بشكلٍ كبيرٍ في تطوير منتجات الشركة وجعلها أكثر تنافسية في السوق.

رائد ثورة حقيقية في عالم الحوسبة
في النهاية يمكن القول إن دانيال بريكلين لم يكن مجرد مبرمج بل كان رائد ثورة حقيقية في عالم الحوسبة. وبابتكاره برنامج “فيزيكالك” أطلق شرارة ثورة الجداول الحاسوبية التي غيرت وجه الأعمال والتعليم. ولم يتوقف عند هذا الإنجاز لكنه واصل مسيرته كرائد أعمال ومبتكر، تاركًا بصمة واضحة في كل مشروع يشارك فيه.
وبالطبع فإن قصة “بريكلين” هي قصة نجاح مبنية على الإبداع والمثابرة والرؤية المستقبلية. فمن خلال الجمع بين الخبرة التقنية والمعرفة الإدارية تمكن من تحويل أفكاره إلى واقع ملموس، وألهم جيلًا كاملًا من المبرمجين والمبتكرين. وبالتالي فإن إرث دانيال بريكلين يبقى خالدًا في تاريخ الحوسبة، وسوف تظل ابتكاراته مصدر إلهام للأجيال القادمة.