يُعد تريستان هاريس، الخبير الأمريكي في أخلاقيات التكنولوجيا والمدير التنفيذي والمؤسس المشارك لمركز التكنولوجيا الإنسانية، من أبرز الأصوات الناقدة لقطاع التكنولوجيا، خاصة منصات التواصل الاجتماعي.
ولاقى “هاريس” اهتمامًا واسعًا بعد ظهوره في الفيلم الوثائقي الناجح “المعضلة الاجتماعية” الذي عرض على منصة “نتفليكس”.
تريستان هاريس
في هذا الفيلم كشف تريستان هاريس وغيره من الخبراء عن أسرار تصميم منصات التواصل الاجتماعي، وكيف أنها مصممة بعناية لتغذية الإدمان لدى المستخدمين. وذلك عبر مجموعة من الحيل النفسية التي تستهدف عواطفهم وسلوكهم.
علاوة على ذلك سلط الضوء على التأثير السلبي لهذه المنصات في الصحة العقلية. خاصة لدى فئة المراهقين؛ حيث أظهرت الدراسات ارتباطًا وثيقًا بين استخدام وسائل التواصل الاجتماعي المتزايد وزيادة معدلات الاكتئاب والقلق بين الشباب.
من ناحية أخرى قدم “هاريس” حلولًا بديلة لتصميم التكنولوجيا بشكلٍ أكثر إنسانية؛ إذ دعا إلى ضرورة وضع الأخلاقيات في صميم عملية تطوير التكنولوجيا، وتقديم تجارب مستخدم أكثر إيجابية وبناءة. كما حذر من مخاطر تركيز السلطة في أيدي شركات التكنولوجيا القليلة. ودعا إلى ضرورة وجود رقابة تنظيمية أكبر على هذا القطاع.
وبينما يواجه انتقادات من بعض أوساط التكنولوجيا إلا أن أفكاره ألهمت العديد من النشطاء والمشرعين حول العالم للعمل على إصلاح قطاع التكنولوجيا.
الحياة المبكرة والتعليم
وُلد تريستان هاريس يوم 24 يوليو 1983م، في منطقة خليج سان فرانسيسكو، قلب صناعة التكنولوجيا في العالم. ونشأ في بيئة محفزة على الابتكار والتطور التكنولوجي. ما دفعه إلى دراسة علوم الكمبيوتر في جامعة ستانفورد، إحدى أرقى الجامعات في هذا المجال.
وخلال دراسته الجامعية لم يكتفِ “هاريس” بالمعرفة النظرية بل سعى إلى تطبيقها عمليًا من خلال التدرب في شركة أبل، العملاق التكنولوجي. وبعد ذلك قرر التعمق في مجال تفاعل الإنسان والحاسوب، وهو مجال يدرس كيفية تصميم التكنولوجيا لتناسب احتياجات المستخدمين وتلبية تطلعاتهم.
وفي هذا الإطار التحق ببرنامج الماجستير في جامعة ستانفورد؛ حيث تأثر بشكلٍ كبير بآراء البروفيسور “ب. ج. فوج”، أحد رواد مجال التكنولوجيا المقنعة. والذي يدرس كيفية استخدام التكنولوجيا للتأثير في سلوك الأفراد.
ولكن، ورغم حبه للتكنولوجيا، بدأ “هاريس” يشعر بالقلق إزاء بعض الآثار السلبية لهذه التكنولوجيا في المجتمع. وزاد هذا القلق بعد تخرجه في الجامعة وعمله داخل شركات تكنولوجيا كبرى؛ حيث شاهد عن قرب كيف يتم تصميم المنتجات التكنولوجية بطريقة تهدف إلى إدمان المستخدمين وجعلهم يقضون وقتًا أطول في استخدام هذه المنتجات. حتى لو كان ذلك على حساب صحتهم العقلية وحياتهم الاجتماعية.
مسيرته كرائد أعمال
بدأ تريستان هاريس مسيرته المهنية في عالم التكنولوجيا عام 2007م؛ حيث أسس شركته الناشئة الأولى “Apture”. والتي لاقت نجاحًا ملحوظًا؛ ما دفع شركة عملاق التكنولوجيا “جوجل” إلى الاستحواذ عليها في عام 2011م. وبعد الانضمام إلى جوجل عمل على تطوير مشروع “جوجل إنبوكس”. والذي يهدف إلى تحسين تجربة المستخدمين مع البريد الإلكتروني.
وخلال فترة عمله في “جوجل” قدم “هاريس” عرضًا تقديميًا مؤثرًا بعنوان “دعوة لتقليل الإلهاء واحترام انتباه المستخدمين”. وفي هذا العرض، الذي حظي بانتشار واسع بين موظفي “جوجل”، حذر من الآثار السلبية للإدمان في الهواتف الذكية وتطبيقات التواصل الاجتماعي.
وطرح “هاريس” سؤالًا مهمًا حول المسؤولية التي تقع على عاتق الشركات التكنولوجية الكبرى. مثل: جوجل وأبل وفيسبوك، في حماية المستخدمين من هذه الآثار.
تأسيس مركز التكنولوجيا الإنسانية
بعد مغادرته “جوجل” في عام 2015م أسس تريستان هاريس منظمة غير ربحية أطلق عليها اسم “مركز التكنولوجيا الإنسانية”. ويهدف هذا المركز إلى إعادة توجيه التكنولوجيا لخدمة البشرية وتقليل الآثار السلبية التي تسببها.
وأكد “هاريس” أن العقول البشرية يمكن التلاعب بها بسهولة. وأن الخيارات التي يعتقد الناس أنهم يتخذونها بحرية ليست كذلك في الواقع.
وفي عام 2019م صاغ مصطلحًا جديدًا هو “تدهور الإنسان”، لوصف الأضرار المتراكمة التي تسببها التكنولوجيا الرقمية. وتشمل: الإدمان، والإلهاء، والعزلة، والاستقطاب، والأخبار الزائفة. وحذر هاريس من أن هذه الأضرار تؤثر سلبًا في قدرة البشر على التفكير بشكل واضح واتخاذ قرارات رشيدة.
فيلم “الديليما الاجتماعي”
تمت مقابلة هاريس وأعضاء آخرين من فريق مركز التكنولوجيا الإنسانية في فيلم “الديليما الاجتماعي” الذي عرض على منصة “نتفليكس”. وفي هذا الفيلم حذر “هاريس” من أضرار وسائل التواصل الاجتماعي. مشيرًا إلى أن عددًا محدودًا من المصممين يتخذون قرارات تؤثر في مليارات الأشخاص حول العالم.
علاوة على ذلك فإن “هاريس” يحمل العديد من براءات الاختراع نتيجة عمله في شركات مختلفة مثل: أبل وجوجل. من ناحية أخرى ظهر في العديد من البرامج التلفزيونية والمؤتمرات للتحدث عن أهمية بناء تكنولوجيا تخدم البشرية. بينما يواصل مركز التكنولوجيا الإنسانية جهوده لتوعية الجمهور بأضرار التكنولوجيا الرقمية، كذلك يعمل على تطوير حلول مبتكرة لمعالجة هذه المشاكل.
تحدٍ جديد يواجه التكنولوجيا
في السنوات الأخيرة وسع تريستان هاريس نطاق اهتماماته ليشمل تحديًا جديدًا يواجه عالم التكنولوجيا. فبعد أن حذر من مخاطر “اقتصاد الانتباه” الذي يعتمد على استغلال انتباه المستخدمين. بدأ في تسليط الضوء على فجوة متسعة بين سرعة تطور التكنولوجيا والتبعات التي تترتب عليها وبين قدرة المجتمع والمؤسسات على مواكبة هذا التطور والاستجابة له بشكلٍ مناسب.
وأطلق هاريس ومركزه على هذه الفجوة اسم “فجوة الحكمة”. مشددًا على الحاجة الملحة إلى تطوير حكمة جماعية توازن بين التقدم التكنولوجي وحماية القيم الإنسانية.
اعتراف عالمي بدور “هاريس” الرائد
حظي تريستان هاريس باعتراف واسع النطاق بدوره الرائد في مجال التكنولوجيا الإنسانية. ففي عام 2016م وصفته مجلة “ذا أتلانتك” بأنه “أقرب ما يكون إلى ضمير وادي السيليكون”. ما يعكس تأثيره الكبير في توجيه الاهتمام نحو الآثار الاجتماعية والأخلاقية للتكنولوجيا. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تم إدراجه في قوائم مرموقة مثل: قائمة “تايم 100” للقادة الأكثر تأثيرًا في عام 2021م. وقائمة “رولينج ستون” لأكثر 25 شخصًا يغيرون المستقبل. وقائمة “فورتشن” لأكثر 25 فكرة ستغير المستقبل.
وبالإضافة إلى جهوده البحثية ونشاطاته التوعوية يساهم “هاريس” في نشر الوعي بأهمية التكنولوجيا الإنسانية من خلال مشاركته في تقديم بودكاست “Your Undivided Attention”. ويوفر هذا البودكاست منصة لمناقشة القضايا المتعلقة بالتكنولوجيا والوعي الرقمي، ويستضيف مجموعة من الخبراء والباحثين الذين يعملون على تطوير حلول مستدامة للتحديات التي تواجه المجتمع في عصرنا الرقمي.
صوت الضمير في وادي السيليكون
في ختام هذا التقرير يتضح لنا أن تريستان هاريس ليس مجرد شخصية تقنية بارزة بل هو صوت ضمير يمثل تحديًا جريئًا لقطاع التكنولوجيا. حيث كشف عن الوجه الآخر للتكنولوجيا، الذي يختبئ وراء الواجهات البراقة والتطبيقات المبتكرة. وأظهر لنا كيف أن التكنولوجيا يمكن أن تكون أداة للتلاعب بالعقول وتهديد الخصوصية وحتى الصحة النفسية.
وبالطبع فإن مسيرة “هاريس” هي مثال حي على الشجاعة والتفاني في الدفاع عن القيم الإنسانية في عصر يهيمن عليه التطور التكنولوجي السريع. وألهمنا جميعًا للتفكير بعمق في العلاقة بين التكنولوجيا والمجتمع، ودفعنا إلى المطالبة بتكنولوجيا أكثر إنسانية وأخلاقية.
ومع ذلك فإن الطريق أمامنا لا يزال طويلًا. فالتحديات التي يطرحها التطور التكنولوجي تتطلب جهودًا مشتركة من قبل الحكومات والشركات والمجتمع المدني. وعلينا جميعًا أن نعمل معًا لبناء مستقبل تكنولوجي أكثر عدالة واستدامة، مستقبل يحترم كرامة الإنسان وحقوقه.