جهاز كمبيوتر بشاشة خضراء (مونوكروم) وذاكرة 640 كيلوبايت، وفلوبي ديسك درايفر للأقراص المرنة خمسة وربع بوصة، ومعالج إنتل 8088 بسرعة 4,77 ميجاهيرتز، وليس به قرص صلب، ولم يكن الماوس أو نظام التشغيل ويندوز قد خرجا إلى الوجود، بل فقط لوحة مفاتيح ونظام التشغيل البدائي دوس.
كان حصولي على هذا الجهاز أهم أحلامي كطالب في كلية الهندسة بمطلع الثمانينيات، لكن اصطدم الحلم بالثمن الباهظ لهذا الجهاز السحري والذي تخطى مبلغ ألفين وخمسمائة جنيه، بما يعادل أربعة آلاف ومائتي دولار، وبما يوازي خمسة وسبعين ألف جنيه حاليًا؛ حيث كان الدولار الواحد يساوي ستين قرشًا في ذلك الوقت، ويتخطى الثمانية عشرة جنيهًا الآن.
ترددت كثيرًا في مفاتحة والدي بالأمر، وأخيرًا قلت له على استحياء: أريد كمبيوتر، هل يمكنك شراؤه لي؟ فأجابني بدون تردد : “سأشتريه لك حتى لو بِعت نظارتي”.وبالفعل صار لدي هذ الجهاز في اليوم التالي.
كان أبي في ذلك الوقت يرتدي نظارة بعدسات سميكة لا يستطيع الرؤية بدونها على مسافة لمتر واحد؛ أي شبه أعمى، كما أنه يدرك بالطبع أن بيع النظارة لن يأتي إلا بجنيهات معدودة، لكن الرسالة الرمزية البليغة في رده، كأنه يقول يا بُني: لا يهمني أن أكون أعمى، الأهم بالنسبة لي أن تتعلم وتنمي مهاراتك وقدراتك، وتستعد جيدًا لمستقبل زاهر تصنعه بنفسك.
هكذا كان ولايزال، أبي – حفظه الله – مؤمنًا بوصية أمه – رحمها الله – “ابنِ ابْنك ولا تبنِي له”. علِّم ولدَك ودربه وفهمه، ولا تبني له القصور فيضيعها إن كان مدللًا. قيل إن الأب هو الرجل الوحيد في العالم الذي يأخذ من نفسه ليعطيك. قد لا يستطيع والدك منحك كل ما تتمناه، لكن تأكد أنه أعطاك كل ما يملك.
لي صديق يعمل أستاذًا جامعيًا، يحنو على طلابه ويرفق بهم، مع حرصه على تزويدهم بالعلم النافع والمعارف الحديثة؛ إذ يُغدق عليهم بالدرجات والتقديرات المرتفعة. وقد ابتكر درجات إضافية تحت مسمَّى “دعوات الوالدين”؛ لأنه يؤمن بأن والديّ الطالب هما اللذان بحاجة لهذه الدرجات أكثر من ابنهما الذي قد يتسم بالرعونة وقلة الاهتمام بالدراسة، فالاستثمار الأكبر للآباء والأمهات – على مر العصور- كان ولا يظل مُنصبًا على تعليم الأبناء.
أهمس في أذن كل رائد و رائدة أعمال: مفاتيح الأرزاق بالدنيا ومفتاح الجنة بالآخرة، والنجاح والفلاح والسعادة في الداريْن هو بِر الوالديْن والإحسان إليهما في حياتهما ومماتهما، ودعاؤهما لك يجلب الخير ويدفع الشر، ولن تجني ثمرة كفاحك إلا برضائهما عنك.
وأخيرًا، لكل أب: كلكم راعٍ، وكُلكم مسؤول عن رعيته.. ولتجعل رسالتك في الحياة: إسعاد أسرتك وتنشئة أبنائك التنشئة الصالحة.