لطالما شكّل التكامل والتنافر بين السياسات والإجراءات تحديًا مستمرًا أمام صناع القرار في مختلف المجالات. فبينما تسعى السياسات إلى رسم الخطط الاستراتيجية وتحديد الأهداف العامة؛ فإن الإجراءات تمثل الآلية التنفيذية التي تترجم هذه السياسات إلى واقع ملموس على الأرض؛إلا أن هذا التكامل غالبًا ما يواجه عقبات تتجسد في التناقضات والتضاربات بين المستوى النظري والتطبيق العملي. ما يؤثر على فعالية ونجاح أي نظام أو مؤسسة.
أضف إلى ذلك، أن العلاقة بين السياسات والإجراءات تتأثر بعوامل متعددة ومتشابكة؛ منها البيئة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فضلًا عن التغيرات السريعة التي تشهدها العولمة.
ففي عالم اليوم، تتطلب الإدارة الفعالة للمؤسسات الحكومية والخاصة قدرة عالية على التكيف مع المتغيرات المستمرة، وتطوير سياسات وإجراءات مرنة قادرة على الاستجابة للتحديات الجديدة. في حين أن العديد من الدراسات والأبحاث أشارت إلى أهمية التكامل بين السياسات والإجراءات في تحقيق الأهداف المنشودة؛ إلا أن هناك فجوة كبيرة بين النظرية والتطبيق في العديد من الحالات.
السياسات والإجراءات
من ناحية أخرى، تشير دراسة أجرتها جامعة ستانفورد عام 2022 إلى أن النجاح في تطبيق السياسات يتطلب وجود إطار مؤسسي قوي وشفاف، يضمن مشاركة جميع الأطراف المعنية في عملية صنع القرار والتنفيذ. كذلك، تلعب التكنولوجيا الرقمية دورًا محوريًا في تعزيز التكامل بين السياسات والإجراءات، من خلال توفير أدوات وأنظمة متطورة لجمع وتحليل البيانات، وتسهيل التواصل والتعاون بين مختلف الجهات.
كما أظهرت دراسة أجرتها جامعة “أكسفورد” عام 2023 أن هناك علاقة طردية بين مستوى التكامل بين السياسات والإجراءات وفعالية الأداء المؤسسي. ووجدت الدراسة أن المؤسسات التي تتمتع بإطار سياسي واضح وإجراءات تنفيذية متسقة تحقق نتائج أفضل من تلك التي تعاني من التشتت والتعقيد. ومن الضروري الإشارة إلى أن تحقيق التكامل بين السياسات والإجراءات يتطلب تضافر جهود جميع الأطراف المعنية، بدءًا من صناع القرار وصولًا إلى الموظفين المكلفين بتنفيذ السياسات على أرض الواقع.
ثنائية تكاملية في صناعة القرار
لا ريب في أن السياسة والإجراءات تشكلان حجر الزاوية في منظومة إدارة أي مؤسسة؛ سواء كانت حكومية أو خاصة. فكلاهما يساهمان بشكلٍ مباشرٍ في تحقيق الأهداف المنشودة، إلا أن لكل منهما دوره ووظيفته المحددة. فبينما ترسم السياسة المعالم العريضة للأهداف والاتجاهات العامة التي تسعى المؤسسة إلى تحقيقها، فإن الإجراءات تتولى مهمة ترجمة هذه السياسة إلى خطوات عملية قابلة للتنفيذ.
1. السياسة:
يمكن تشبيه السياسة بخارطة الطريق التي توجه المؤسسة نحو وجهتها المحددة. فهي توفر الإطار العام الذي يعمل الجميع ضمنه، وتضمن اتساق القرارات والأنشطة مع الرؤية والقيم المؤسسية.
أضف إلى ذلك، أن السياسة تعمل على توضيح المسؤوليات والصلاحيات. وهو ما يساهم في تقليل الالتباس وتجنب التعارضات. في حين أن السياسة تحدد “ماذا”، فإن الإجراءات تجيب على سؤال “كيف”.
2. الإجراءات:
إذا كانت السياسة هي الخارطة، فإن الإجراءات هي الدليل التفصيلي الذي يشرح كيفية الوصول إلى الوجهة المحددة. كما توفر خطوات واضحة ومحددة لتنفيذ المهام والعمليات؛ ما يضمن تحقيق الكفاءة والفعالية.
من ناحية أخرى، تعمل الإجراءات على توحيد الأداء وتقليل الأخطاء؛ حيث توفر إرشادات موحدة لجميع الموظفين. كذلك، تساهم الإجراءات في ضمان الامتثال للقوانين واللوائح، وحماية المؤسسة من المخاطر القانونية.
العلاقة التكاملية بين السياسة والإجراءات
لا شك أن العلاقة بين السياسة والإجراءات علاقة تكاملية لا انفصام بينهما. فالإجراءات هي التطبيق العملي للسياسة، والسياسة هي الأساس الذي تستند إليه الإجراءات. ويمكن أن توجد سياسة بدون إجراءات، إلا أن الإجراءات لا يمكن أن توجد بدون سياسة. كما أن أي تغيير في السياسة يستلزم بالضرورة تعديل الإجراءات المصاحبة لها.
كيفية بناء السياسة والإجراءات
ثمة مجموعة من الخطوات الدقيقة والمنهجية التي يتعين اتباعها لبناء سياسات وإجراءات مؤسسية متوازنة، تجمع بين وضوح الرؤية وسلاسة التطبيق. فلتحقيق الأهداف المنشودة، لا بد من إشراك كافة الأطراف المعنية، واستخدام أدوات تحليلية حديثة، والاعتماد على أفضل الممارسات العالمية. وتتضمن الخطوات الأساسية في هذه العملية ما يلي:
أولًا: السياسات
يمثل بناء السياسات والإجراءات حجر الزاوية في إدارة أي منظمة، سواء كانت شركة تجارية أو مؤسسة حكومية؛ فمن خلال وضع إطار عمل واضح المعالم، تستطيع المنظمات تحقيق أهدافها بكفاءة، والحد من المخاطر، وتعزيز التعاون بين مختلف الأطراف المعنية.
1. تحديد الهدف والرؤية بوضوح
تبدأ عملية بناء السياسة بتحديد الهدف الذي تسعى المنظمة لتحقيقه من خلالها. هل تهدف السياسة إلى تحسين جودة المنتج، أم إلى زيادة الإنتاجية، أو ربما إلى تعزيز ثقافة العمل الجماعي؟
إن تحديد الهدف بوضوح يمثل بوصلة توجه عملية صياغة السياسة بأكملها. علاوة على ذلك، يجب أن تتضمن الرؤية صورة واضحة للمستقبل الذي تسعى المنظمة إلى تحقيقه من خلال تطبيق هذه السياسة.
2. التحليل الدقيق وجمع البيانات
قبل الشروع في صياغة السياسة، ينبغي إجراء تحليل شامل للوضع الراهن للمنظمة. ويتضمن هذا التحليل دراسة القوانين واللوائح ذات الصلة، والاطلاع على أفضل الممارسات المتبعة في المجال، وتحليل نقاط القوة والضعف والفرص والتحديات التي تواجه المنظمة. كما أنه من الضروري العمل على جمع بيانات دقيقة عن الأداء الحالي. وذلك لتحديد المجالات التي تحتاج إلى تحسين.
3. صياغة السياسة بلغة واضحة ومباشرة
بعد الانتهاء من مرحلة التحليل، يأتي دور صياغة السياسة نفسها؛ ولذلك، يجب أن تكون السياسة مكتوبة بلغة واضحة ومباشرة، بحيث يفهمها جميع الموظفين بسهولة.
كما ينبغي أن تتضمن السياسة مجموعة من العناصر الأساسية؛ منها: “الهدف، والنطاق، والمبادئ، وتوزيع الأدوار والمسؤوليات، والإجراءات”.
4. المراجعة الشاملة والاعتماد الرسمي
قبل اعتماد السياسة، يجب عرضها على مجموعة من الخبراء والمختصين لإجراء مراجعة شاملة لها. وتهدف هذه المراجعة إلى التأكد من أن السياسة تتفق مع أهداف المنظمة، وأنها قابلة للتنفيذ، وأنها لا تتعارض مع أي من السياسات الأخرى. بعد الانتهاء من المراجعة، يتم اعتماد السياسة رسميًا من قبل مجلس الإدارة أو أعلى مرجعية في المنظمة.
5. التواصل الفعال والتنفيذ الدقيق
بعد اعتماد السياسة، يجب نشرها على جميع الموظفين وتنظيم جلسات تدريبية لتوضيح مضمونها وأهميتها. كما ينبغي توفير الدعم اللازم للموظفين لتمكينهم من تنفيذ السياسة بفعالية.
ومن الضروري أيضًا متابعة تنفيذ السياسة بشكل دوري، وتقييم مدى تحقيق أهدافها، وإجراء التعديلات اللازمة عند الضرورة.
ثانيًا: الإجراءات
بعد صياغة السياسة، تأتي مرحلة حيوية لا تقل أهمية وهي بناء الإجراءات التفصيلية التي تضمن تنفيذ السياسة على أرض الواقع. فالإجراءات هي بمثابة خارطة الطريق التي توجه الموظفين في تنفيذ المهام الموكلة إليهم. وتضمن تحقيق الأهداف المرجوة من السياسة.
1. تحليل العمليات بدقة
تبدأ عملية بناء الإجراءات بتحليل دقيق للعمليات التي يجب القيام بها لتنفيذ السياسة. ويتضمن هذا التحليل تحديد جميع الأنشطة والمهام التي تتطلب إنجازها، وتحديد العلاقات بين هذه الأنشطة. من خلال هذا التحليل، يمكن تحديد النقاط التي تحتاج إلى مزيد من التوضيح أو التبسيط.
2. تقسيم العملية إلى خطوات واضحة
عند الانتهاء من تحليل العمليات، يتم تقسيم العملية إلى مجموعة من الخطوات المنطقية والمتسلسلة. وينبغي أن تكون هذه الخطوات واضحة ومحددة، بحيث لا يكون هناك أي لبس حول ما يجب القيام به في كل مرحلة. كما من الضروري أن تكون الخطوات مرتبة بشكل زمني، بحيث تتبع خطوة أخرى بشكل منطقي.
3. تحديد المسؤوليات بوضوح
تعد تحديد المسؤوليات عن كل خطوة من الخطوات الحيوية لضمان سير العمل بسلاسة. لذا، يجب تحديد الموظف أو القسم المسؤول عن تنفيذ كل خطوة، وتوضيح الصلاحيات والمسؤوليات الموكلة إليهم. وبالطبع، هذا يساعد في تجنب الالتباس وتحديد المسؤولية في حالة حدوث أي مشكلة.
4. صياغة الإجراء بلغة واضحة ومباشرة
بعد تحديد الخطوات والمسؤوليات، يتم صياغة الإجراء بلغة بسيطة وواضحة، بحيث يفهمها جميع الموظفين بسهولة. ويجب أن يتضمن الإجراء مجموعة من العناصر الأساسية، منها: “الغرض، والنطاق، والمتطلبات، والخطوات التنفيذية، والإطار الزمني، والتقارير”.
5. المراجعة والتجربة قبل التطبيق
قبل اعتماد الإجراء وتطبيقه، يجب مراجعته بدقة للتأكد من أنه شامل وواضح وخالٍ من أي أخطاء. ويمكن إجراء محاكاة لتنفيذ الإجراء للتأكد من أنه يعمل بشكل صحيح. كما يمكن طلب ملاحظات الموظفين الذين سيقومون بتنفيذ الإجراء للتأكد من أنهم يفهمون جميع الخطوات.
في نهاية المطاف، تعد العلاقة بين السياسات والإجراءات حجر الزاوية في بناء أي منظومة ناجحة. فبينما ترسم السياسة الرؤية المستقبلية وتحدد الأهداف، فإن الإجراءات هي الآلية التي تترجم هذه الرؤية إلى واقع ملموس. إلا أن تحقيق التكامل المثالي بينهما يظل تحديًا مستمرًا، يتطلب تضافر جهود صناع القرار والموظفين، وتبني أدوات وأساليب حديثة.
وتذكر أن الفجوة بين السياسة والإجراءات غالبًا ما تنشأ عن عدة عوامل، منها عدم وضوح الرؤية، أو ضعف التنسيق بين الجهات المعنية، أو نقص الموارد اللازمة للتنفيذ. ولذا، فإن بناء إطار عمل مؤسسي قوي، يعتمد على الشفافية والمرونة، يعد شرطًا أساسيًا لضمان فعالية السياسات وتحقيق الأهداف المنشودة.