تناولنا في المقال الأول أربعة ألوان للاقتصاد، ونستكمل في هذا المقال الأوان الأربعة الأخرى؛ وهي: الأسود، الأخضر، الأزرق، والبنفسجي..
5- الاقتصاد الأسود Black economy:
يُعد كل نشاط تجاري يتم خارج نطاق القوانين واللوائح وبعيدًا عن دفع الضرائب، جزءًا لا يتجزأ من الاقتصاد الأسود، أو ما يطلق عليه: اقتصاد الظل، أو الاقتصاد السري، أو الاقتصاد الخفي. وينتشر هذا النوع في معظم بلدان العالم، ولكن بنسب متفاوتة، وينشط كثيرًا في الدول ذات الأنظمة الضعيفة، والتي ينتشر فيها الفساد، وغياب العدالة الاجتماعية، وارتفاع معدلات البطالة، والتفاوت الكبير بين دخول المواطنين.
ثلاث خصائص
ويتميز الاقتصاد الأسود بثلاث خصائص رئيسة؛ وهي جوانبه غير القانونية، واستخدام غسيل الأموال لإكساب الأموال شكلًا قانونيًا، واتباع طرق ملتوية لتجنب كشف سلطات إنفاذ القانون عن المدفوعات والمعاملات المالية التي تتم. وعلى سبيل المثال، كشفت أستراليا في عام 2018 عن نحو 72 مليار دولار من الأنشطة غير القانونية التي استخدمت عملة “بتكوين” الرقمية؛ لتكون بمنأى عن أعين المسؤولين.
ومن أبرز أمثلة الاقتصاد الأسود: الاتجار بالبشر، وسرقة المعلومات الشخصية والمالية (للوصول إلى الحسابات المصرفية وبطاقات الائتمان)، والمخدرات، والأسلحة، والأموال المزورة، والبرمجيات المقرصنة والمنسوخة بشكل غير مشروع.
6- الاقتصاد الأخضر Green economy:
عرَّف برنامج الأمم المتحدة، الاقتصاد الأخضر بأنه:” الاقتصاد الذي ينتج عنه تحسن في نوعية الحياة، وتحقيق العدالة والمساواة الاجتماعية”.
وبناء على هذا التعريف، فإن الاقتصاد الأخضر هو التحول من أنماط الإنتاج والاستهلاك غير المستدام إلى أنماط استهلاكية أكثر استدامة، تتمثل في الحفاظ على التنوع الأيكولوجي، وتقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، والحفاظ على الموارد الطبيعية وحق الأجيال القادمة.
ويُعد الاقتصاد الأخضر وسيلة لتحقيق التنمية المستدامة المنشودة، وليس بديلًا لها؛ لأنها لن تتحقق إلا بالترويج لفكرة الاقتصاد الأخضر، بعد عقود من تدمير البيئة عن طريق الاقتصاد الكلاسيكي (البني) والذي يقوم على التنمية الملوثة للبيئة، كما ييسر الاقتصاد الأخضر تحقيق التكامل بين الأبعاد الأربعة للتنمية المستدامة، وهى: الأبعاد البيئية، والاجتماعية، والاقتصادية، والتقنية، والإدارية.
نتائج إيجابية
وقد أثبتت الدراسات التي قام بها برنامج الأمم المتحدة للبيئة، أن تطبيق منهج الاقتصاد الأخضر يعود بنتائج إيجابية بصفة عامة على مختلف القطاعات، كما أثبتت أيضًا أن الاستثمار في مجال الطاقة المتجددة يخلق فرص عمل أكثر من الاستثمار في مجال الطاقة التقليدية.
إنَّ تبني منهج التنمية المستدامة والتحول إلى الاقتصاد الأخضر- كنمط ابتكاري وغير تقليدي للتنمية- يمكن أن يمثل رؤية مستقبلية لما يمكن أن يساهم به هذا المنهج في إحداث طفرة نوعية (غير عادية) للتنمية، مقارنة بالتنمية التي انتهجتها الدول المتقدمة.
تحقيق العدالة
ويكفل تطبيق الاقتصاد الأخضر، تحقيق العدالة؛ ذلك الحلم الذي يراود البشر، فحين تغيب العدالة أو يختل ميزانها تختل موازين الحياة بين الأفراد والمجتمعات، بل وبين الدول؛ فيختفي الأمن وتشتعل النزاعات، ويظهر الإرهاب، وتقوم الانتفاضات والثورات، وتشتعل الحروب بين الدول.
7- الاقتصاد الأزرق Blue economy:
يظهر الاقتصاد الأزرق دوليًّا كأحد أهم القضايا الاقتصادية، بعد نمو مفهوم الاقتصاد الأخضر القائم على الطاقة النظيفة.
ورغم حداثة “الاقتصاد الأزرق”، إلا أنه بات يحظى باهتمام كبير، تجاوز الحدود الأكاديمية والبحثية، إلى دوائر صنع القرار الاقتصادي والسياسي في العديد من دول العالم، خاصة في ظل وجود أصول بحرية في العالم، تضم كنوزًا تقدر بنحو 24 تريليون دولار.
حماية البحار والمحيطات
و”الاقتصاد الأزرق ” هو الإدارة الجيدة للموارد المائية، وحماية البحار والمحيطات بشكل مستدام؛ للحفاظ عليها من أجل الأجيال الحالية والقادمة. ويرجع إطلاق مسمى ” الاقتصاد الأزرق ” إلى رجل الاقتصاد البلجيكي جونتر باولي، في أعقاب المبادرة العالمية التي أطلقتها منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) في عام 2012 أثناء أعمال مؤتمر البيئة العالمي بمدينة ريودي جانيرو البرازيلية.
دعم الأمن الغذائي
ويعمل الاقتصاد الأزرق كمحفز لتطوير السياسات والاستثمار والابتكار في دعم الأمن الغذائي، والحد من الفقر والإدارة المستدامة للموارد المائية، كما يغطي مجموعة واسعة من القطاعات؛ مثل أنشطة النقل النهري والبحري، والصيد المستدام، وتربية الأحياء المائية، والسياحة البيئية، وتحسين المناخ، وإدارة النفايات، ومناطق المحميات البحرية، والبحث، والابتكار، وريادة الأعمال، والسياحة الشاطئية، وسياحة اليخوت والغوص والصيد، واستخراج البترول والغاز من أعماق البحار والمحيطات، وإعادة استخدام مياه الصرف الصحي، وأنشطة الموانئ اللوجستية.
تسريع النمو الاقتصادي
ومن المتوقع على المستوى العالمي أن ينمو الاقتصاد الأزرق بمعدل متضاعف عن بقية الاقتصاديات بحلول عام 2030، حيث أن الاقتصاد الأزرق يُعد مفتاحًا لتسريع النمو الاقتصادي وخلق فرص عمل، ومحاربة الفقر، واستخدام الموارد المائية بشكل مستدام.
ويجب اعتبار الوسط البحري من أدوات التنمية الاقتصادية، والعمل على تحسين بيئة الأنهار والبحار والمحيطات والنظم البيئية التي تدعمها، حيث لاتزال تتعرض لتهديدات وتراجع متزايد في جميع أنحاء العالم.
8- الاقتصاد البنفسجي The violet economy:
أحد فروع علم الاقتصاد التي استُحدِثت مؤخرًا، والذي يؤكد على ضرورة إضفاء الطابع الإنساني بين العولمة واستخدام الثقافة بحيث تسهم وتساعد في تحقيق أبعاد التنمية المستدامة؛ من خلال تثمين العائد الثقافي للسلع والخدمات.
والاقتصاد البنفسجي هو الذي يحمل بين طياته قيمًا ترتبط ارتباطًا وثيقًا بثقافة المجتمع؛ ما يحقق استجابة وتفاعل الإنسان؛ فتكون بذلك الثقافة خادمة للاقتصاد وموصلة لأهدافه.
وتوصف الثقافة بأنها القوة الناعمة ذات الأثر البالغ في الاقتصاد، الذي يمكن اعتباره نموذجًا قائمًا على التنمية الثقافية للخروج من الأزمة الاقتصادية؛ إذ يمكن للثقافة إعادة توجيه اقتصاديات الغد.
طبيعة شمولية
وقد ظهر هذا المفهوم في فرنسا عام 2011 في صحيفة لوموند الفرنسية من خلال جمعية “ديفيرسيوم “، التي نظمت في باريس أول منتدى دولي حول الاقتصاد البنفسجي تحت رعاية كل من منظمة اليونيسكو والاتحاد الأوروبي والمفوضية الأوروبية.
ويتميز الاقتصاد البنفسجي بأنه ذو طبيعة شمولية أكثر من كونه يثمن كل السلع والخدمات مهما كانت قطاعاتها؛ وذلك استنادًا على البعد الثقافي، لكنه يختلف عن الاقتصاد الثقافي الذي يقوم ويرتكز على منطق القطاعات.
إن الطبيعة الإنسانية تقوم على تعدد الثقافات والتي يدخل في بنائها، تقاليد المجتمع والانتماء الحضاري، وأهم عامل فيها هو العقيدة.
العامل الثقافي
ويستوجب هذا التعدد- الذي يفرض ذاته من القطاعات الاقتصادية المختلفة- عدم الاقتصار في التعامل مع نمط واحد من فئة المستهلكين في ظل ارتفاع الوعي الاستهلاكي نتيجة التطور التكنولوجي وتعاظم دور الإنترنت في التجارة؛ ما يحتم عليه استخدام العامل الثقافي في عملية استقطاب المستهلكين في ظل وجود المنافسة.
العولمة
إن التغيرات التي فرضتها الساحة الدولية في ظل العولمة، تؤكد فشل المخططات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية التي تُسطر بمنأى عن العوامل الثقافية؛ لذا يقوم الاقتصاد البنفسجي على استدعاء العوامل الثقافية؛ لتأخذ مكانتها ضمن العوامل المؤثرة في توجيه الاقتصاد، وتحقيق أهداف الرفاهية والتنمية، كما تقوم هذه العناصر الملجمة بلجام الثقافة على استنهاض الحوافز الاقتصادية، والاستجابة للفرص المتاحة للفرد والمجتمع؛ كونها الموجه والمحفز الداخلي الأقوى المؤثر في الإنفاق من أجل لاستهلاك والاستثمار.
في ضوء ما تقدم، يمكننا القول إن ألوان الاقتصاد سالفة الذكر، ليست جميعها جيدة، خاصةً تلك التي ينتج عنها مساوئ وسلبيات، كما يمكننا القول إن أفضلها هو الاقتصاد الأزرق، ثم البنفسجي، ثم الأخضر.
ويبقى السؤال المطروح الآن: هل ستبقى ألوان الاقتصاد كما هي، أم ستظهر ألوان أخرى بخصائص جديدة، ومفاهيم جديدة؟ سؤال تجيب عنه الأيام القادمة.