يشهد عالم الشركات تحولًا جذريًا في مفهوم بيئة العمل؛ حيث باتت مسألة عودة الموظفين إلى مكاتبهم أمرًا محل جدل واسع. في خضمّ هذا الأمر، يسلط كتاب “The Future of the Office” الضوء على هذا التحدي المعقد الذي يواجه صانعي القرار في المؤسسات حول العالم.
بينما يحذر المؤلف بيتر كابيلي من أن القرارات المتعلقة بمستقبل العمل تتطلب دراسة متأنية لعوامل متشابكة، مثل: الحفاظ على الكفاءات، وتعزيز الإنتاجية، والحفاظ على الهوية المؤسسية، يقدم الكتاب خيارات متنوعة تكشف عن تعقيدات هذا التحول.
كتاب The Future of the Office
يوضح كتاب The Future of the Office أن هناك ثلاثة خيارات رئيسية أمام الشركات: العودة إلى العمل من المكاتب، التحول الكامل للعمل عن بعد، أو تبني نموذج العمل الهجين. بينما يميل العديد من أرباب العمل إلى الخيار الأول لضمان التواصل الفعلي بين الموظفين، يفضل الموظفون العمل عن بعد لما يتيحه من مرونة. من ناحية أخرى، يشكل النموذج الهجين حلًا وسطًا يجمع بين مصالح الطرفين، وإن كان لا يرضي جميع الأطراف بشكل كامل.
في سياق الكتاب، يستعرض كابيلي تجربة شركة Google، التي كانت تعد واحدة من أفضل أماكن العمل بفضل بيئة العمل المرنة والمزايا الفريدة. في ربيع 2021، تبنت Google نموذج العمل الهجين؛ حيث سمحت لبعض موظفيها بالعمل عن بعد بشكلٍ دائم. بينما سمحت للبعض الآخر بالعمل من المكتب على فترات. يعكس هذا القرار تأثير الجائحة في تغيير مفهوم بيئة العمل التقليدية. كما يلقي الضوء أيضًا على المزايا والتحديات التي تواجهها الشركات في تبني هذا النموذج الجديد.
تأثير الوباء على ثقافة العمل
يؤكد بيتر كابيلي في كتابه The Future of the Office أن الوباء أحدث تغييرًا جذريًا في ثقافة العمل. في حين أثبت الموظفون أنهم قادرون على البقاء منتجين وهم يعملون من المنزل. واجهت الشركات تحديات في المحافظة على الروح التعاونية والإبداعية التي تأتي من التفاعل الشخصي في المكتب. من ناحية أخرى، سمح العمل عن بعد للشركات بالبقاء على قيد الحياة خلال الأزمة. ولكنه أثار أيضًا تساؤلات حول مستقبل العمل المكتبي.
ومن خلال استعراض الفصول المختلفة من كتاب The Future of the Office، لربما لاحظت أن العديد من الشركات قد اضطرت إلى اتخاذ قرارات سريعة ومؤقتة للتكيف مع جائحة “كوفيد-19”. فالكتاب يبرز كيف أن الشركات في بداية الجائحة تعاملت مع العمل عن بعد كحل مؤقت. مع التركيز على استمرار الأعمال حتى انتهاء الأزمة. ومع ذلك، فإن هذه القرارات الارتجالية كانت بمثابة تحدٍ كبير لبعض الشركات التي لم تكن مهيأة تمامًا لهذا التحول.
دروس مستفادة
يقدم الكتاب دروسًا هامة من تجارب الشركات الكبرى. مثل: Amazon وWalmart، التي تبنت سياسات مرنة للحفاظ على موظفيها خلال فترة انتشار الجائحة. في البداية، قدمت هذه الشركات مكافآت للموظفين الذين استمروا في العمل بالموقع وإجازات غير مدفوعة الأجر لأولئك الذين لم يستطيعوا الحضور. بينما يوضح الكتاب كيف أن هذه الإجراءات كانت ناجحة على المدى القصير. إلا أن استمرار الوباء لفترة طويلة أدى إلى تغيير استراتيجيات الشركات بشكل جذري.
علاوة على ما فات، فإن كتاب The Future of the Office يوضح أن قطاع الشركات التكنولوجية كان من أكثر القطاعات تأثرًا بالجائحة. فمثلاً، شركة Microsoft قامت بإغلاق مكاتبها حتى صيف 2021، ما أثار جدلًا واسعًا في الصناعة. بالطبع، دفعت هذه التجارب الشركات التكنولوجية إلى تبني استراتيجيات جديدة للعمل عن بعد. واعتباره جزءًا لا يتجزأ من ثقافة العمل المستقبلية.
الخيارات المطروحة
يطرح الكتاب سؤالًا محوريًا: هل تعود الشركات إلى المكاتب التقليدية كما كانت؟ يرى المؤلف بيتر كابيلي أن العمل عن بعد والنموذج الهجين، الذي يجمع بين العمل من المنزل والمكتب، يصبحان هما السائدين في المستقبل. ويؤكد على أهمية تحقيق التوازن بين احتياجات الشركات ومرونة الموظفين.
ويشير الكتاب إلى أن القرارات التي تتخذها الشركات اليوم تحدد شكل مكان العمل في المستقبل. فمنح الموظفين الخيار بين العمل عن بعد والمكتب يمثل تحولًا كبيرًا في ثقافة العمل، يتطلب من الشركات دراسة دقيقة للمخاطر والفرص المرتبطة به. كما يتطلب هذا التحول إعادة النظر في العديد من الجوانب، مثل: أدوات التعاون والتواصل، وتقييم الأداء، وبناء ثقافة الشركة.
العمل عن بعد بين المزايا والتحديات
أظهرت دراسات أجريت في عام 2000 أن الموظفين الذين يعملون عن بعد قد يواجهون تحديات كبيرة، مثل: فقدان الفرص للتفاعل الاجتماعي وتبادل المعلومات، ما يؤثر سلبًا على أدائهم وترقيتهم. كما أن المديرين قد يجدون صعوبة في تقييم أداء الموظفين البعيدين، وقد يفترضون أنهم أقل التزامًا بعملهم.
ولكن، هل يعني ذلك أن العمل عن بعد فكرة سيئة؟ ليس بالضرورة. يسلط الكتاب الضوء على العديد من المزايا التي يوفرها العمل عن بعد، مثل: المرونة في تحديد ساعات العمل، وتقليل الوقت المستغرق في التنقل، وزيادة الإنتاجية. ومع ذلك، يشدد الكتاب على أهمية تحقيق التوازن بين المزايا والتحديات المرتبطة بالعمل عن بعد.
عوامل عديدة يجب أخذها في الاعتبار
عند التفكير في الانتقال إلى العمل عن بعد، يجب على الموظفين مراعاة العديد من العوامل. أولًا، يجب عليهم تقييم طبيعة عملهم ومدى تفاعلهم مع زملائهم. فالموظفون الذين يعملون في مشاريع جماعية قد يواجهون صعوبات أكبر في العمل عن بعد مقارنة بمن يعملون بشكل مستقل. كما ينبغي على الموظف أن يأخذ في الاعتبار ثقافة الشركة التي يعمل بها، فالشركات التي تشجع على المرونة والعمل عن بعد غالبًا ما توفر للموظفين الأدوات والتدريب اللازمين للنجاح في هذا النمط من العمل.
من ناحية أخرى، يجب على الشركات التي تعتمد على التواصل المباشر والاجتماعات الشخصية أن تعيد النظر في استراتيجياتها إذا أرادت تبني نموذج العمل عن بعد. فالتواصل الفعال والتعاون بين الموظفين أمران أساسيان لنجاح أي مشروع، وهذه العناصر قد تتأثر سلبًا بالعمل عن بعد إذا لم يتم التعامل معها بشكل صحيح.
بالإضافة إلى ذلك، يسلط كتاب The Future of the Office الضوء على أهمية دور المدير في نجاح العمل عن بعد. فالمديرون الذين يتمتعون بمهارات قيادية قوية والذين يعرفون كيفية بناء علاقات قوية مع موظفيهم يمكنهم مساعدة موظفيهم على النجاح في العمل عن بعد. كما يجب على المديرين أن يضعوا خططًا واضحة لتقييم أداء الموظفين البعيدين وتقديم الملاحظات اللازمة.
ربط موقع الموظف بالراتب ليس مجديًا
يبرز كتاب The Future of the Office تساؤلًا مثيرًا حول مدى فعالية ربط الرواتب بموقع الموظف. في الواقع اعتمدت بعض الشركات، مثل: فيسبوك وإكس. هذا الأسلوب أثناء الوباء؛ حيث عرضت شركة Stripe على الموظفين مكافآت مالية للانتقال إلى مناطق ذات تكلفة أقل. ورغم أن هذا التوجه قد يبدو منطقيًا في الظاهر، فإنه أثبت عدم جدواه في سياق سوق العمل الرقمي المتطور. خاصةً أن المهارات التقنية باتت موردًا نادرًا ستدفع الشركات أموالًا طائلة للحصول عليها، بغض النظر عن الموقع الجغرافي.
قبل الوباء، كانت شركات مثل: فيسبوك تدفع مكافآت إضافية للموظفين الذين يعيشون بالقرب من مقرها الرئيسي في وادي السليكون. لكن مع التوسع في تبني العمل عن بعد، لم تعد هذه السياسة فعالة. ما سمح للشركة بالوصول إلى مجموعة مواهب أوسع وأكثر تنوعًا جغرافيًا. وفي خضمّ هذا الأمر، يعتمد كتاب The Future of the Office هذا التحول كعامل أساسي في إعادة صياغة مستقبل العمل وكيفية تأثيره على طرق التوظيف والتعويضات.
تحديات العمالة عن بعد
في حين أن العمل عن بعد يمكن أن يمكِّن الشركات من توظيف عمالة أجنبية أقل تكلفة، فإنه أيضًا يطرح تحديات جديدة. مثل: زيادة معدل دوران الموظفين. في سوق تنافسي يدرك فيه الموظفون العروض المقدمة من الشركات المنافسة. أصبح التفاوض على خيارات العمل عن بعد جزءًا مهمًا من عملية التوظيف. وفقًا لما يذكره كتاب The Future of the Office، فإن العديد من خريجي كليات الحقوق في عام 2021 ضغطوا على الشركات القانونية لمعرفة سياساتها بشأن العمل عن بعد قبل قبول العروض.
واللافت هنا أن كتاب The Future of the Office يقدم نموذجين رئيسيين للعمل الهجين. الأول هو “نموذج هجين من مستويين”؛ حيث يتم تقسيم الموظفين إلى فريقين: فريق يعمل عن بعد بدوام كامل وفريق آخر يعمل من المكتب. إلا أن هذا النموذج قد يؤدي إلى شعور بعض الموظفين بالتهميش وكأنهم مواطنون من الدرجة الثانية في الشركة. علاوة على هذا الأمر، يتطلب إدارة الموظفين عن بعد جهودًا إضافية من قبل المديرين. ولكنه يوفر في نفس الوقت في تكاليف العقارات والمكاتب.
مرونة أكبر
الخيار الثاني الأكثر شعبية بين الموظفين هو “نموذج هجين اختر بنفسك”. والذي يسمح لهم باختيار أيام العمل عن بعد أو في المكتب. ورغم أن هذا النموذج أكثر تعقيدًا من الناحية الإدارية، فإنه يمنح الموظفين مرونة أكبر. شركات مثل: سيتي جروب وكي بي إم جي تبنت هذا النظام لتواكب متطلبات السوق ومنافسة الشركات الأخرى.
في النهاية، بعد هذه الرحلة الاستكشافية -عبر كتاب The Future of the Office- في عالم العمل المتغير. يتضح لنا أن الجائحة لم تكن مجرد أزمة عابرة، بل كانت بمثابة نقطة تحول جذريّة شكّلت مستقبل العمل. لقد أظهرت لنا التجربة بالفعل أن مرونة العمل والقدرة على التكيف مع الظروف المتغيرة هما العاملان الأساسيان لبقاء الشركات وتنافسيتها.
بينما ننظر إلى المستقبل، يتضح أن العمل عن بعد والنموذج الهجين سيظلان خيارين جذابين لكثير من الشركات والموظفين على حد سواء. ومع ذلك، فإن تحقيق التوازن بين مرونة العمل واحتياجات الأعمال يتطلب تخطيطًا دقيقًا وتعاونًا بين أصحاب العمل والموظفين.