تتصدر التحولات الفكرية والسياسية داخل وادي السيليكون واجهة النقاش العالمي مؤخرًا، مستقطبة الأضواء حول مسار صناعة التقنية من الليبرالية المعتدلة إلى اليمين الصارخ. غير أن كتاب Gilded Rage، للصحفي المحنك جاكوب سيلفرمان، يأتي ليعيد رسم ملامح هذه الظاهرة المعقدة من منظورٍ أكثر عمقًا وإحكامًا في التحليل والاستقصاء.
ويتتبع سيلفرمان في هذا العمل الاستقصائي رحلة إيلون ماسك من كونه رمزًا عالميًا للابتكار الثوري والاستدامة البيئية. إلى صوته الصاخب الذي انضم إلى معسكر اليمين الأمريكي المتشدد. وفي هذا الصدد، يوضح كتاب Gilded Rage أن القصة تتجاوز مجرد تحوّل شخصي عابر. لتصبح انعكاسًا صادقًا لأزمة هوية هيكلية تضرب قلب الصناعة التقنية برمتها.
كتاب Gilded Rage
ومن خلال أسلوبٍ تحليلي متماسك وموثق، يكشف كتاب Gilded Rage بدقة كيف امتزجت المصالح الاقتصادية الهائلة بالعقائد السياسية المتشددة في وادي السيليكون. حتى أصبح المال والثروة هو الوقود الحقيقي الذي أذكى نار تطرّف النخبة التقنية. و لذلك، بدأ الصحفيون والمحللون يتساءلون بقلق بالغ عن السبب الجوهري وراء هذا الانقلاب السياسي المفاجئ والجذري لماسك منذ تلك اللحظة الحاسمة على مسرح التجمع السياسي.
وفي محاولة لفك هذا اللغز، يتناول كتاب “Gilded Rage” التناقضات الصارخة بشخصية ماسك. فقد تساءل بفضول تحليلي: كيف لرئيس تنفيذي كان يقود بيوم من الأيام أكثر شركات الطاقة الخضراء شهرة بالعالم. وسبق أن قدّم نفسه مؤيدًا للهجرة وحقوق المثليين ومدافعًا عن البيئة، أن يتحوّل جذريًا ليصبح داعمًا لمرشح يعارض كل تلك القضايا بوضوح؟
نهاية عصر المال المجاني
وفي محاولة لفهم هذا التحول، طُرحت خلال السنوات الأخيرة عدة تفسيرات محتملة. فقد تمحورت حول علاقته بابنته المتحولة جنسيًا. أو ربما سقوطه بفخ التطرّف الرقمي الناجم عن استخدامه النهم لوسائل التواصل الاجتماعي التي يمتلكها. وربما كان السبب أيضًا هو تدهور العلاقة بينه وبين الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن. لكن سيلفرمان يرى تفسيرًا أعمق يربط هذه العوامل بخيوط اقتصادية وسياسية متداخلة.
ولهذا الغرض، يستعرض الصحفي جاكوب سيلفرمان بكتابه الجديد “Gilded Rage: Elon Musk and the Radicalization of Silicon Valley” هذه العوامل جميعًا. حيث يوضح كيف وجد كثيرون بصناعة التكنولوجيا أرضية مشتركة قوية مع إدارة ترامب. بيد أنه يقدّم تفسيرًا إضافيًا وجذريًا لما يسميه “تطرّف ماسك”. وهو تفسير يشرح بوضوح ليس فقط سبب انحياز ماسك إلى ترامب. بل لماذا سار كثير من أقرانه بالاتجاه نفسه، ليُلخص الإجابة بكلمة واحدة: الطمع.
مسألة اقتصادية محورية
وأما التفسير الأطول الذي يورده سيلفرمان بالكتاب فيتعلق بمسألة اقتصادية محورية، وهي ارتفاع أسعار الفائدة. وتحديدًا نهاية حقبة “سياسة أسعار الفائدة الصفرية” عام 2022. ويروي سيلفرمان أن قادة التكنولوجيا عاشوا عقدًا كاملًا من “المال المجاني” السهل. استخدموه لبناء ثروات شخصية غير مسبوقة وصلت إلى مستويات فلكية بفضل هذه السياسة النقدية الميسرة.

وعندما واجهوا فجأة فاتورة قاسية تمثلت بانهيار العملات المشفرة وتباطؤ محتمل بقطاع التكنولوجيا، تحالفوا ببراغماتية مع الحزب الجمهوري للحفاظ على “الأوقات الجميلة” كما هي. ويرى سيلفرمان أن نجاح خطتهم حتى الآن يعد إما انتصارًا للعبقرية الاقتصادية والواقعية السياسية. أو خطرًا جسيمًا على الديمقراطية الأميركية. وهو يميل بوضوح إلى الرأي الثاني.
سيرة جماعية للمتطرفين الاقتصاديين
وعلى الرغم من أن ماسك يحتل موقعًا مركزيًا بلا منازع في سرد القصة، فإنه ليس البطل الوحيد في الكتاب. حيث يوضح سيلفرمان في مطلع مؤلَّفه أن عمله هو في جوهره بمثابة “سيرة جماعية” لمجموعة من الشخصيات المؤثرة التي تسير كلها في الاتجاه المقلق نفسه، بعيدًا عن مثاليات الوادي القديمة.
وكان اختيار سيلفرمان أن يتعامل مع ماسك وغيره من المديرين التنفيذيين والمستثمرين ذوي الميول اليمينية في قطاع التكنولوجيا كأنهم فريق واحد، له وقع سريع ومتسلسل، حتى إن القارئ يشعر وكأنه أمام لوحة مؤامرات مترابطة بخيوط حمراء، تمتد من ماسك إلى داعميه السريين في الشرق الأوسط الذين كشف سيلفرمان هويتهم، وصولًا إلى شخصيات مثل: مارك أندريسن وتشانغبينغ تشاو.
ومع كل هذا، فإن هذا الأسلوب السردي المُكثّف يناسب طبيعة المادة تمامًا. ويقدّم سيلفرمان حجة مقنعة تشرح كيف تطرف وادي السيليكون، منطلقًا في المقام الأول من الدوافع المالية البحتة لا الأيديولوجية المعقدة. متجنبًا التركيز المعتاد على منشورات ماسك المثيرة للجدل على وسائل التواصل الاجتماعي. ليعرض بدلًا من ذلك تفسيرًا واقعيًا لسبب تحوّل كثير من حلفاء ترامب الأقوياء في التقنية من ديمقراطيين معتدلين إلى قوميين اقتصاديين.
المال أساس الأيديولوجيا
وبطبيعة الحال، لا يعني ذلك أن الأيديولوجيا غابت تمامًا عن المشهد؛ إذ يوضح سيلفرمان كيف وضع الملياردير بيتر ثيل النموذج الذي اقتدى به ماسك: فثيل كان من أوائل مؤيدي ترامب المتحمسين. ونجح في بناء شبكة سياسية من التقنيين المحافظين الذين ساعدوا لاحقًا في تشكيل ملامح إدارة ترامب الثانية. ما يؤكد على الجذور الأيديولوجية التي ارتكزت على أساس مادي.
ويكشف سيلفرمان، الذي يمتلك معرفة مباشرة بعالم الشركات هذا، عن تجربة شخصية كاشفة بدأت في عام 2019، عندما عمل لفترة قصيرة ككاتب خفي لرجل أعمال صغير في مجال التكنولوجيا الحيوية -تبين لاحقًا أنه فيفيك راماسوامي- حيث تمتع بامتيازات “عصر المال المجاني”: رواتب مرتفعة وأهداف فضفاضة مرضية وقليل من العمل الحقيقي.
وفيما بعد، غادر ذلك المدير، فيفيك راماسوامي، شركته ليؤسس شركة “سترايف لإدارة الأصول”. وهي شركة استثمار مناهضة لتيار “الوعي المستيقظ” مدعومة من بيتر ثيل. ورغم أن الشركة لم تحقق نجاحًا حاسمًا، إلا أن ثروة راماسوامي الشخصية كانت في تصاعد مستمر. ما مكنه من كتابة كتاب ناجح، والترشح للرئاسة، ثم تعيينه شريكًا لماسك في “وزارة كفاءة الحكومة” بعد إعلانه دعم ترامب. وهو يخوض الآن سباق حاكمية ولاية أوهايو بدعم منه.
تجربة سيلفرمان في القطاع الخاص
وكانت تجربة سيلفرمان في القطاع الخاص كاشفة لأبعد الحدود. إذ كتب: “تعلمت مدى فشل هذه الطبقة الجديدة من الممولين ورؤوس الأموال المغامرة وأباطرة التكنولوجيا في خلق أي شيء مستدام. بدا أن كثيرين منهم جمعوا ثرواتهم من خلال هندسة مالية ما. مزيج من العلاقات الداخلية، والاستغلال الماهر للقوانين والثغرات الضريبية، ومبالغ ضخمة من القروض الرخيصة التي راهنوا بها على مشاريع ضخمة.”
وبالتالي، يرى سيلفرمان أنه عندما انتهى عصر الفائدة الصفرية، جاء رد فعل هذه الطبقة على شكل غضب سياسي ثم تحرك نحو التحالف مع الجمهوريين. بعد أن خلصوا إلى أن الحزب الجمهوري، وليس الديمقراطي، هو الضامن لاستمرار ثرواتهم وتوسّعها اللامحدود. هذا الادعاء بأن إنجازات وادي السيليكون كانت في جوهرها تلاعبًا بالسوق أكثر من كونها ابتكارات حقيقية يحمل قدرًا كبيرًا من الحقيقة.
وفي المشهد الختامي، يختتم سيلفرمان كتابه بمشهد مأساوي يتولى فيه ماسك قيادة “وزارة كفاءة الحكومة”. ويبدأ بطرد الموظفين الحكوميين بلا هوادة. مشيرًا إلى أن عهد وادي السيليكون القديم قد انتهى. هذا الختام يبدو حتميًا ومحبطًا لمن نشأ في عصر شعار جوجل القديم: “لا تكن شريرًا”؛ حيث استُبدلت مثالية التقنية -إن وُجدت حقًا- بمزيج من الأنانية المادية والرغبة الجامحة في السلطة.


