لا يخفى على أحد أن تمويل عجز الموازنة أصبح محورًا جوهريًا في النقاشات الاقتصادية المعاصرة، لا سيّما في ظل التحديات المالية التي تواجهها الحكومات بسبب تقلبات الأسواق العالمية وتراجع الإيرادات في بعض القطاعات الحيوية.
وفي هذا السياق تتباين الآراء بين من يرى التمويل ضرورة لتسيير شؤون الدولة. ومن يخشى انعكاساته على الدين العام والتضخم.
ومن هذا المنطلق تعتمد الحكومات على إستراتيجيات متنوعة في تمويل عجز الموازنة، أبرزها إصدار أدوات الدين مثل: السندات والصكوك. أو اللجوء إلى الاحتياطات المالية؛ أو حتى الاقتراض الخارجي بشروط محسوبة. وعلى الرغم من أن هذه الحلول قد تسهم في سد الفجوة المالية إلا أن فاعليتها تبقى رهينة بقدرة الدولة على إدارة المخاطر وضمان استدامة الدين.
تمويل عجز الموازنة
علاوة على ذلك تبرز أهمية ترشيد الإنفاق وتعزيز الإيرادات غير النفطية كخطوتين أساسيتين لتقليل الاعتماد على تمويل عجز الموازنة. فتنويع مصادر الدخل وتفعيل الأنظمة الضريبية بكفاءة يمكن أن يساهما في تقليص العجز تدريجيًا. ما يعكس رؤية أكثر توازنًا واستدامة في إدارة المالية العامة.
ولا يمكن إنكار أن تمويل عجز الموازنة يمثل أداة مؤقتة وليست حلًا دائمًا. إذ يتطلب الأمر رؤية اقتصادية شاملة تُراعي الأولويات الوطنية وتحقق التوازن بين النمو الاقتصادي والاستقرار المالي. لذا فإن نجاح أي خطة تمويلية يتوقف على شمولية الإصلاحات، وشفافية الأداء؛ وقدرة الدولة على توجيه الموارد نحو القطاعات ذات العائد المجتمعي الأكبر.
بين الأدوات التقليدية والقيود الواقعية
لطالما شكّل تمويل عجز الموازنة تحديًا دائمًا أمام صانع القرار المالي، خصوصًا خلال فترات التقلبات الاقتصادية وارتفاع أسعار الفائدة عالميًا. وفي هذا السياق تبرز أذون الخزانة كأداة رئيسية تلجأ إليها الحكومة لتغطية العجز السنوي في الموازنة العامة.
إلا أن ارتفاع العوائد عليها مؤخرًا أدى إلى زيادة ملموسة في أعباء خدمة الدين. ما يلقي بثقله على ميزانية الدولة ويعمّق -بالضرورة- من مستويات العجز، مع بقاء العوامل الأخرى على حالها.
-
أذون الخزانة:
تعد أذون الخزانة من أهم أدوات سوق النقد، وتتميز بآجال قصيرة تتراوح بين ثلاثة أشهر و364 يومًا. ويتم إصدارها بخصم إصدار يعكس العائد الحقيقي للمستثمر. وبما أن الجهاز المصرفي هو المشتري الأساسي لهذه الأذون فإن نسبة كبيرة من السيولة البنكية تتجه نحو تمويل عجز الموازنة عبر هذه الوسيلة.
غير أن ارتفاع معدل العائد المطلوب على هذه الأذون يؤدي إلى رفع قيمة الفوائد التي تتحملها الدولة. وهذا يعني زيادة مباشرة في حجم الإنفاق الحكومي، وبالتالي تفاقم العجز المالي.
-
القروض الخارجية:
علاوة على ذلك يظل الاقتراض الخارجي خيارًا مطروحًا لتمويل عجز الموازنة، سواء عبر قروض مباشرة أو من خلال إصدار سندات بالعملات الأجنبية تباع لمؤسسات دولية وأفراد. ورغم أن هذه الآلية قد تكون أقل تكلفة مقارنة بالتمويل المحلي فإنها لا تخلو من مخاطر. فهي ترفع من الدين العام الخارجي وتثقل كاهل الدولة بأعباء خدمة ديون متنامية، لاسيما في ظل تقلب أسعار الصرف والفوائد العالمية.
-
التمويل التضخمي:
ومن الخيارات التي تبقى مطروحة -رغم عدم تفضيلها- ما يعرف بالتمويل التضخمي أو الإصدار النقدي المباشر. وهو خيار محفوف بالمخاطر. إذ يؤدي إلى انفلات في المستوى العام للأسعار، وقد يحوّل معدل التضخم من رقمين إلى ثلاثي الأرقام. ما يفاقم الأزمات المعيشية والاجتماعية.
بناء على ذلك، ورغم كلفته، لا يزال التمويل المحلي عبر أذون وسندات الخزانة هو الخيار الأكثر واقعية في المرحلة الراهنة لتمويل عجز الموازنة.
-
قيود تقليص الإنفاق:
من ناحية أخرى ينبغي أن يكون الاعتماد على أذون الخزانة مقرونًا بجهود حقيقية لتقليص النفقات العامة. وهنا تبرز المعضلة: نحو 80% من الإنفاق الحكومي مخصص للفوائد، والدعم، والأجور. وهي بنود يصعب المساس بها نظرًا لارتباطها المباشر بالاستقرار الاجتماعي والسياسي. الأمر الذي يجعل أي محاولة لتقليص هذا الإنفاق محفوفة بالتحديات، ويعقّد مساعي تقليص تمويل عجز الموازنة.
-
رفع الإيرادات العامة:
وفي ضوء صعوبة تقليص الإنفاق يبقى البديل في رفع كفاءة تحصيل الإيرادات العامة. لا من خلال فرض ضرائب جديدة أو رفع المعدلات الحالية -نظرًا لضعف الطاقة الضريبية للمجتمع- بل عبر مكافحة التهرب الضريبي. والتهريب الجمركي، والفساد الإداري.
تحقق هذه الآليات زيادة فعلية بإيرادات الدولة. تسهم في تمويل عجز الموازنة دون أن ترهق المواطنين أو تثير اضطرابات اقتصادية.
التوازن المطلوب لتحقيق الاستدامة
في النهاية يفرض واقع تمويل عجز الموازنة على الدولة أن تتحلى بالحكمة في الاختيار بين البدائل المتاحة. وتسعى إلى مزيج متوازن بين أدوات التمويل المحلي والخارجي. مقرونًا بإصلاحات هيكلية حقيقية في إدارة المال العام. فلا يمكن مواجهة التحديات المتزايدة دون نظرة إستراتيجية شاملة تجمع بين ضبط النفقات وتعظيم الإيرادات بكفاءة وعدالة.