تُشكّل قصة نجاح بول أوتليه، البلجيكي الذي تنبأ بوصول الإنترنت قبل عقود من ظهوره، نموذجًا رائعًا لرجل سبق عصره. إذ كان أكثر من مجرد مؤلف ومحامٍ وناشط سلام، بل كان رؤية ثاقبة للمستقبل ومساهمًا رئيسيًا في تأسيس علم المعلومات الحديث.
وفي وقت كانت الفكرة مجرد حلم تمكن “أوتليه” من تصور شبكة عالمية للمعلومات تربط بين البشر والمعرفة.
بول أوتليه
علاوة على ذلك لم يقتصر دور “أوتليه” على التنبؤ بالمستقبل بل كان له دور عملي في تطوير أدوات وأنظمة تساهم في تحقيق رؤيته. حيث أنشأ التصنيف العشري العالمي. وهو نظام تصنيف للمعلومات لا يزال يستخدم حتى اليوم.
كما طور أداة استرجاع معلومات مبكرة تعتمد على بطاقات الفهرسة، والتي كانت سابقة لمحركات البحث الحديثة.
من ناحية أخرى كان من أشد المؤمنين بأهمية التعاون الدولي، وأسس العديد من المنظمات الدولية التي تسعى إلى تعزيز التبادل الثقافي والمعرفي بين الشعوب.
وبينما كان العالم يشهد تغييرات جذرية في بداية القرن العشرين عمل “أوتليه” على بناء بنية تحتية عالمية للمعلومات والمعرفة. إذ رأى في هذا التطور فرصة لتقريب الشعوب من بعضها البعض وبناء عالم أكثر سلامًا وازدهارًا.
فيما عمل جنبًا إلى جنب صديقه هنري لا فونتين، الحائز على جائزة نوبل للسلام؛ لدعم جهود عصبة الأمم وبناء عالم أكثر عدالة.

الحياة المبكرة والوظيفة
وُلد بول أوتليه في بروكسل، بلجيكا، يوم 23 أغسطس 1868م، لأسرة ثرية. ونشأ في بيئة محفزة على التعلم؛ حيث كان والده رجل أعمال ناجحًا وأمه من عائلة مثقفة. لكن فقدت والدته حياتها في سن مبكرة؛ ما ترك أثرًا عميقًا في طفولته.
وأظهر “أوتليه” منذ صغره شغفًا بالمعرفة والقراءة، وسرعان ما تبين أن لديه موهبة استثنائية في تنظيم المعلومات.
وبدلًا من التعليم النظامي تلقى تعليمًا منزليًا في سنواته الأولى. وكان والده يرى أن المدارس التقليدية تقيد التفكير الإبداعي، ففضل أن يتعلم ابنه من خلال القراءة المستقلة والتجارب الشخصية. وأدى ذلك إلى تكوين شخصية مستقلة لأوتليه، تتميز بالفضول العلمي وحب الاستطلاع.
وفي سن الحادية عشرة التحق بمدرسة يسوعية في باريس، ثم انتقل إلى كلية سانت ميشيل المرموقة في بروكسل. وعلى الرغم من هذا التوجه نحو التعليم الرسمي إلا أن “أوتليه” حافظ على روح الاستقلالية التي تميزت بها طفولته. وأظهر اهتمامًا خاصًا بالفلسفة والعلوم، وبدأ يشكل رؤيته الخاصة حول تنظيم المعرفة.
بدايات مهنية واهتمام متزايد بالفهرسة
بعد حصوله على درجة في القانون عمل بول أوتليه كاتبًا لدى محامٍ شهير، إلا أنه سرعان ما شعر بالملل من الحياة المهنية التقليدية. وبدأ يوجه اهتمامه نحو مجال الفهرسة، وهو مجال كان يعد في ذلك الوقت جديدًا ومبتكرًا.
وفي عام 1892م نشر “أوتليه” أولى كتاباته حول الفهرسة، معربًا عن اعتقاده بأن النظام التقليدي لتنظيم الكتب غير كافٍ. واقترح نظامًا جديدًا يعتمد على بطاقات الفهرسة. والتي يمكن استخدامها لتصنيف المعلومات بشكل أكثر مرونة وفعالية. كما طرح فكرة إنشاء “مخطط موجز تفصيلي للغاية للمعرفة”، وهو ما يمكن اعتباره سلفًا لمحركات البحث الحديثة.
زواج وحياة عائلية
تزوج “أوتليه” من ابنة عمه فرناندا جلونر عام 1890م. وساندته في مساعيه العلمية، ودعمته في تطوير أفكاره حول تنظيم المعرفة. وعاشت العائلة حياة مرفهة؛ حيث سافروا كثيرًا إلى مختلف البلدان الأوروبية. وهو ما أتاح لأوتليه الفرصة للاطلاع على الثقافات المختلفة وتوسيع آفاقه.
وكان لوالده تأثير كبير في مسار حياته. إذ ورث عنه الثروة التي مكنته من التفرغ لدراساته وأبحاثه. كما تأثر به في اهتمامه بالأعمال الخيرية؛ حيث كان والده عضوًا في مجلس الشيوخ البلجيكي.
وبفضل ثروته واهتمامه بالفهرسة تمكن “أوتليه” من ترك مهنة المحاماة والتفرغ لدراسة وتطوير أفكاره حول تنظيم المعرفة. وأسس العديد من المنظمات والمؤسسات التي هدفت إلى تجميع وتنظيم المعلومات من جميع أنحاء العالم. وكان يعتقد أن المعرفة هي حق لكل فرد، وتوفير الوصول إليها بسهولة هو أمر ضروري لتقدم البشرية.
ولادة نظام تصنيف عالمي جديد
في عام 1904م شهد عالم المكتبات والمعلومات حدثًا فارقًا بظهور التصنيف العشري العالمي، ثمرة جهود مشتركة بين بول أوتليه وهنري لافونتين. انطلق هذا المشروع الطموح من الرغبة في تطوير نظام شامل لتنظيم المعرفة، يتجاوز حدود التخصصات ويجمع بين مختلف العلوم.
واستند التصنيف العشري العالمي في الأساس إلى نظام ديوي العشري، لكن أُدخلت عليه تعديلات جوهرية لتلبية احتياجات المشروع الببليوغرافي الشامل الذي كان أوتليه ولافونتين يسعيان إليه.
ولتحقيق هذا الهدف الطموح تعاون الثنائي مع خبراء من مختلف التخصصات حول العالم. وعملا بشكلٍ وثيق مع شخصيات بارزة، مثل: هيربرت هافيلاند فيلد في مجال علوم الحيوان. ما ساهم في إغناء النظام بالمعلومات والمعارف المتخصصة.
وتميز التصنيف العشري العالمي بمرونته وقدرته على التكيف مع التطورات العلمية والمعرفية المستمرة.
ولعل من أهم مميزات هذا النظام هو استخدامه تدوينًا جبريًا للإشارة إلى تقاطع عدة مواضيع. فمثلًا: يمكن للمستخدم البحث عن معلومات حول “إحصائيات التعدين والصلب في السويد” باستخدام رمز واحد فقط. هذا الأمر ساهم في تسهيل عملية البحث والاسترجاع، وجعلها أكثر دقة وفعالية.
التصنيف العشري العالمي
يعد التصنيف العشري العالمي مثالًا بارزًا على التصنيف التحليلي-التصنيعي؛ حيث يسمح بربط مفاهيم مختلفة ببعضها البعض. وعلى الرغم من أن بعض النقاد وصفوه بأنه نظام متعدد الأوجه إلا أن أوتليه ولافونتين أكدا أنه يعتمد على مفاهيم أساسية بسيطة، مع إمكانية تكوين مفاهيم أكثر تعقيدًا من خلال دمج هذه المفاهيم الأساسية. هذا النظام الفريد جعل التصنيف العشري العالمي أداة قيّمة للباحثين في مختلف المجالات.
وفي الوقت الذي كان فيه أوتليه ولافونتين يعملان على تطوير التصنيف العشري العالمي واجها العديد من التحديات، أبرزها الحرب العالمية الأولى. التي أدت إلى توقف العديد من المشاريع العلمية والثقافية، وأثرت سلبًا في تمويل المشروع الببليوغرافي الذي كانا يعملان عليه.
واضطر “أوتليه” إلى الفرار من بلجيكا المحتلة، وقضى معظم سنوات الحرب في باريس وسويسرا.
نشر كتاب “نهاية الحرب”
وعلى الرغم من الصعوبات التي واجهها لم يتوقف بول أوتليه عن العمل من أجل تحقيق رؤيته في بناء عالم المعرفة. واستغل فترة الحرب للتفكير في سبل بناء عالم أكثر سلامًا وعدالة. ونشر كتاب “نهاية الحرب” الذي طرح فيه فكرة “الميثاق العالمي لحقوق الإنسان”.
وبالإضافة إلى عمله على التصنيف العشري العالمي كان “أوتليه” يحلم بإنشاء “مدينة المعرفة”. وهي مؤسسة عالمية تجمع كل المعارف البشرية. وبعد الحرب العالمية الأولى، استطاع أوتليه ولافونتين تحقيق جزء من هذا الحلم؛ حيث حصلا على دعم حكومة بلجيكا لإنشاء مركز للمعلومات في بروكسل. وكان الهدف من هذا المركز هو تجميع الموارد المعرفية من جميع أنحاء العالم وتوفيرها للباحثين والدارسين.

رائد في مجال علوم المعلومات
في النهاية يمكن القول إن بول أوتليه كان رائدًا حقيقيًا في مجال علوم المعلومات وتنظيم المعرفة. وتمكن، بفضل رؤيته الثاقبة وإصراره على تحقيق هدفه، من تطوير أدوات وأنظمة لا تزال تستخدم حتى اليوم.
وهو لم يكن مجرد عالم بل كان ناشطًا اجتماعيًا يسعى لبناء عالم أفضل من خلال المعرفة والتعاون.
وبالتأكيد فإن إرث بول أوتليه يتجاوز بكثير إنجازاته العلمية، فهو يمثل نموذجًا للإنسان الذي يؤمن بقوة المعرفة في تغيير العالم. وفي عصرنا الحالي؛ حيث تتزايد كمية المعلومات بشكلٍ هائل، يصبح دور “أوتليه” في تطوير أدوات لتنظيم هذه المعلومات وتسهيل الوصول إليها أكثر أهمية من أي وقت مضى.