لم يكن بوسع أحد أن يتخيل قبل عقود قليلة أن تتحول المعاملات المالية التقليدية التي اعتدنا عليها إلى عالم رقمي متطور؛ حيث تسود التكنولوجيا المالية المشهد وتعيد تشكيل ملامح القطاع المالي بأكمله. ففي قلب هذا التحول الهائل تبرز منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا كواحدة من أسرع المناطق نموًا في مجال التكنولوجيا المالية؛ إذ تشهد طفرة غير مسبوقة في الابتكارات والخدمات المالية الرقمية.
إن التكنولوجيا المالية -هذا المصطلح الذي أصبح جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية- تجاوزت كونها مجرد اتجاه عابر؛ لتصبح قوة دافعة وراء التغيير الاقتصادي والاجتماعي في المنطقة. فهي تمكّن الأفراد والشركات من الوصول إلى الخدمات المالية بسهولة ومرونة غير مسبوقتين، وتدفع عجلة الشمول المالي، وتولد فرص عمل جديدة، وتعزز كفاءة الاقتصاد بشكلٍ عام.
التكنولوجيا المالية في الشرق الأوسط
يُشير تقرير “ماكينزي” الصادر عام 2023 إلى أن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تشهد طفرة غير مسبوقة في قطاع التكنولوجيا المالية؛ حيث حققت نموًا هائلًا خلال السنوات الأخيرة. فمنذ عام 2017 شهدت المنطقة زيادة في الدعم الاستثماري بنحو 36% سنويًا. ما يعكس إيمان المستثمرين بإمكانات هذا القطاع الواعد.
علاوة على ذلك تضاعف التمويل الاستثماري لشركات التكنولوجيا المالية الناشئة أكثر من أربع مرات خلال الفترة من 2020 إلى 2022، ليصل إلى حوالي 885 مليون دولار في عام 2022. كما زادت حصة الجولات الاستثمارية التي تجاوزت 10 ملايين دولار بشكلٍ ملحوظ، من 4% في بداية الفترة إلى أكثر من 15% في نهايتها. ما يدل على أن المستثمرين يركزون على الشركات الناشئة ذات الإمكانات الكبيرة.
الاستثمارات في القطاع
كذلك توزعت الاستثمارات في قطاع التكنولوجيا المالية بالمنطقة بشكلٍ كبير بين الدول الرئيسية؛ حيث جذبت الإمارات العربية المتحدة الحصة الأكبر بنسبة 37% من إجمالي التمويل في عام 2022، تلتها المملكة العربية السعودية بنسبة 25%، ومصر بنسبة 20%، والبحرين بنسبة 12%، وباكستان بنسبة 5%. ويعكس هذا التوزيع تنوع البيئة الاستثمارية في المنطقة ووجود فرص واعدة بمختلف الأسواق.
من ناحية أخرى شهد عام 2023 تباطؤًا طفيفًا في نمو التمويل بقطاع التكنولوجيا المالية على مستوى العالم؛ حيث سجل أدنى مستوى له في سبع سنوات وفقًا لتقرير شركة KPMG. ومع ذلك فإن التوقعات تشير إلى عودة النمو في مطلع عام 2025، خاصة بمنطقة الشرق الأوسط التي تتمتع بإمكانات كبيرة.
الفرص المتاحة لا تزال كبيرة
بينما يواجه قطاع التكنولوجيا المالية في المنطقة بعض التحديات، مثل: الحاجة إلى تطوير البنية التحتية التكنولوجية وتعزيز الوعي بأهمية الخدمات المالية الرقمية، إلا أن الفرص المتاحة لا تزال كبيرة.
ووفقًا لصندوق النقد الدولي يستخدم 17% فقط من المستهلكين في الشرق الأوسط الخدمات المصرفية الرقمية، مقارنة بـ 60% في الولايات المتحدة الأمريكية. وهذا يعني أن هناك سوقًا واسعة غير مستغلة للشركات العاملة في هذا القطاع.
في حين أن نسبة انتشار الهواتف الذكية والإنترنت مرتفعة في بعض دول المنطقة، مثل: الإمارات العربية المتحدة التي تصل فيها إلى 99%، إلا أنها تظل منخفضة في دول أخرى مثل: مصر التي تبلغ بها 71%. وهذا يدل على وجود فجوة رقمية يجب سدها لتمكين المزيد من الأفراد والشركات من الخدمات المالية الرقمية.
تاريخ الـ”فنتك” في الشرق الأوسط
ليس عدلًا أن نقصر الحديث عن التكنولوجيا المالية في الشرق الأوسط على منطقة الخليج وحده. فرغم أن هذه المنطقة هي الأكثر بروزًا في هذا المجال فتوجد قصص أخرى مثيرة للاهتمام في أرجاء المنطقة الشاسعة الممتدة من شمال إفريقيا وحتى إيران والعراق. وفي حين أن النشاط في هذه المناطق قد يكون أقل كثافة إلا أن بذور الابتكار بدأت تظهر، مدفوعة بتغيرات اجتماعية واقتصادية عميقة.
ولكن لماذا لم نشهد طفرة في التكنولوجيا المالية في الشرق الأوسط خلال وقت مبكر؟ يُرجع صندوق النقد الدولي ذلك إلى الهيكل الاقتصادي للمنطقة الذي كان يميل إلى “تفضيل المستفيدين القائمين” على حساب الابتكار. فلطالما كانت الصناعات المالية التقليدية هي المسيطرة. ما قلل من الحوافز لتطوير حلول جديدة.
طلب متزايد على الخدمات المالية
ومع ذلك شهدت السنوات الأخيرة تحولًا جذريًا في المشهد. فمع ازدياد ثروات دول الخليج وظهور طبقة وسطى متنامية نشأ طلب متزايد على الخدمات المالية المبتكرة. فجيل الشباب، على وجه الخصوص، يبحث عن حلول مالية مرنة وسهلة الاستخدام تتناسب مع نمط حياتهم الرقمي.
علاوة على أن المستويات العالية من انتشار الإنترنت والهواتف الذكية في المنطقة مهدت الطريق لنمو سريع في هذا القطاع.
كما أن حكومات المنطقة أدركت أهمية التقنيات المالية كمحرك للتنويع الاقتصادي. فبعد الاعتماد الطويل على النفط والغاز تسعى دول مجلس التعاون الخليجي إلى بناء اقتصادات أكثر مرونة ومتنوعة. وأطلقت العديد من هذه الدول مبادرات طموحة لدعم قطاع التكنولوجيا المالية وتوفير بيئة تنظيمية محفزة للابتكار.
من ناحية أخرى لا تزال هناك تحديات تواجه قطاع التكنولوجيا المالية في الشرق الأوسط، مثل: نقص الكوادر المؤهلة، والبيروقراطية، وعدم الثقة في التقنيات الجديدة. ومع ذلك فإن الإمكانات التي يوفرها هذا القطاع هائلة، ويمكن أن تساهم في تحقيق الشمول المالي وتعزيز النمو الاقتصادي داخل المنطقة.
دفعة سعودية قوية لقطاع الفنتك
على سبيل المثال: نجد أن المملكة العربية السعودية لعبت دورًا رائدًا في دعم وتشجيع قطاع التكنولوجيا المالية. فمنذ إطلاق مبادرة “فنتك السعودية” في عام 2018 شهد القطاع نموًا متسارعًا بفضل الإجراءات الحكومية الداعمة. إذ تم خلال فترة وجيزة وضع إطار تنظيمي واضح، وتطوير قوانين دفع جديدة، وتقديم تسهيلات ترخيص للشركات الناشئة في هذا المجال.
كما أن المملكة لم تتوقف عند هذا الحد بل عملت على توفير بيئة محفزة للابتكار من خلال إنشاء مسرعات وحاضنات أعمال متخصصة في التقنيات المالية، مثل: مبادرة “Flat6Labs”. علاوة على ذلك تم إطلاق العديد من المبادرات الحكومية التي تهدف إلى تعزيز الشمول المالي وتحسين تجربة المستخدم، مثل: نظام المدفوعات الرقمية الفورية واستراتيجية الخدمات المصرفية المفتوحة.
وتأتي هذه الجهود كلها في إطار رؤية المملكة 2030 التي تسعى إلى تنويع الاقتصاد وتحويله إلى اقتصاد قائم على المعرفة.
استراتيجيات مماثلة لدعم القطاع
ولكن المملكة العربية السعودية ليست وحدها في سباق القطاع المالي الرقمي بالمنطقة. بل تبنت عدة دول أخرى في الشرق الأوسط استراتيجيات مماثلة لدعم هذا القطاع الواعد. ففي عام 2019 كانت البحرين أول دولة في المنطقة تعتمد نظام الخدمات المصرفية المفتوحة. ما يفتح الباب أمام مزيد من الابتكار والشراكات بين المؤسسات المالية والشركات الناشئة.
كذلك تمتلك الإمارات العربية المتحدة خططًا طموحة لتطوير قطاع التكنولوجيا المالية؛ حيث تسعى إلى أن تصبح مركزًا إقليميًا للابتكار المالي. وتعد مصر وقطر وموريشيوس من الدول الأخرى التي تعطي الأولوية للقطاع المالي الرقمي ضمن استراتيجياتها الاقتصادية.
الشرق الأوسط واحة خصبة لـ”Fintech”
يشهد الشرق الأوسط تحولًا جذريًا في القطاع المالي؛ حيث يبرز مجال الـ Fintech كقوة دافعة رئيسية نحو المستقبل. إن هذه المنطقة، التي كانت تعتمد تقليديًا على النفط، تشهد الآن تحولًا استراتيجيًا نحو تنويع اقتصاداتها. ويعد القطاع المالي الرقمي ركيزة أساسية في هذه الرؤية المستقبلية.
-
دعم حكومي سخي يستقطب الاستثمارات
من أبرز العوامل التي تدفع نمو القطاع المالي الرقمي في منطقة الشرق الأوسط هو الدعم الحكومي القوي والسخي. تسعى الحكومات في هذه المنطقة، خاصة دول الخليج، إلى تنويع اقتصاداتها بعيدًا عن الاعتماد على النفط. ويعد مجال الـ Fintech أحد أهم القطاعات الواعدة لتحقيق هذا الهدف.
واللافت في هذه المنطقة أن بعض دُولها يتميز بصناديق سيادية ضخمة تمتلك تريليونات الدولارات، وهي تستثمر بنشاط في مختلف القطاعات، بما في ذلك القطاع المالي الرقمي. هذا الدعم الحكومي المباشر يوفر بيئة جاذبة للاستثمار. ويحفز الشركات الناشئة والرائدة على الابتكار والتوسع بهذه المنطقة.
-
سوق ضخمة ومتنوعة توفر فرصًا لا حصر لها
لا تقتصر جاذبية الشرق الأوسط على المستثمرين فحسب، بل تمتد إلى الشركات الناشئة في مجال Fintech. فالسوق في هذه المنطقة كبيرة ومتنوعة، وتضم مئات الملايين من السكان الذين يتطلعون إلى خدمات مالية مبتكرة وسهلة الاستخدام.
ورغم التنوع اللغوي والثقافي في المنطقة إلا أن التوجهات نحو التكامل الاقتصادي. مثل: إنشاء الاتحادات الجمركية، تسهّل على الشركات التوسع في أسواق جديدة. كما أن وجود عملات مختلفة يوفر فرصًا للشركات العاملة في مجال الصرف الأجنبي والمدفوعات.
-
جسر يربط بين الشرق والغرب
يمثل الشرق الأوسط جسرًا فريدًا يربط بين الشرق والغرب؛ ما يتيح للشركات الناشئة الاستفادة من أفضل الممارسات العالمية. فمن جهة يمكنها الاستفادة من الخبرة الغربية في مجال الـ Fintech. ومن جهة أخرى الاستفادة من الفرص المتاحة في الأسواق الناشئة بالشرق.
ويعد مجال الـ Fintech الإسلامي مثالًا واضحًا على ذلك؛ حيث يمكن للشركات التي تعمل في هذا المجال أن تستهدف مليارات المسلمين حول العالم. كما أن وجود مجتمع كبير من المغتربين في المنطقة يتيح بيئة عمل متنوعة ودولية. ما يعزز الابتكار والتبادل المعرفي.
في نهاية المطاف يتضح لنا أن قطاع التكنولوجيا المالية في الشرق الأوسط يشهد تحولًا جذريًا يعيد تشكيل المشهد المالي التقليدي. ومع الدعم الحكومي القوي، والاستثمارات المتزايدة، والابتكارات المستمرة فإن المنطقة على أعتاب عصر جديد من الازدهار الاقتصادي والشمول المالي.
لكن تحقيق هذه الرؤية يتطلب تضافر جهود جميع الأطراف المعنية، من الحكومات والشركات إلى الأكاديميين والمستثمرين. فبالتعاون والعمل الجاد يمكن للشرق الأوسط أن يصبح رائدًا عالميًا في مجال التكنولوجيا المالية. ويساهم في بناء مستقبل أكثر إشراقًا لأجيال قادمة.