لطالما شكّل مفهوم البطالة المقنعة معضلة اقتصادية بارزة تُلقي بظلالها على هيكل سوق العمل في العديد من الدول، لا سيّما تلك التي تعتمد على التوظيف الحكومي الواسع. ويقصد بها وجود عدد كبير من العاملين في وظائف لا تتطلب هذا العدد فعليًا. ما يؤدي إلى تدنّي الكفاءة الإنتاجية، وغياب العدالة في توزيع الأدوار والموارد.
كما تعكس البطالة المقنعة فجوة واضحة بين المخرجات التعليمية والاحتياجات الفعلية لسوق العمل. ما يستدعي تدخلًا إستراتيجيًا لإعادة توجيه السياسات التشغيلية بما يواكب تطورات الاقتصاد الحديث.
من ناحية أخرى، تؤدي البطالة المقنعة إلى إهدار الطاقات البشرية؛ إذ يبقى كثير من الموظفين حبيسي المهام الروتينية التي لا تساهم في رفع الناتج المحلي. علاوة على ذلك فإنّها تثقل كاهل الميزانيات الحكومية برواتب لا تقابلها قيمة إنتاجية حقيقية. كذلك تسهم البطالة المقنعة في خلق بيئة عمل غير محفّزة، تُغيّب روح الإبداع والتطوير، وتُكرّس ثقافة الاتكالية بدلًا من ثقافة الكفاءة والتميز. ما يجعل معالجتها ضرورة ملحّة لبناء اقتصاد تنافسي ومستدام.
مفهوم البطالة المقنعة
تفصيليًا، تعدّ البطالة المقنعة من الظواهر الاقتصادية السلبية التي تتغلغل بصمت في أروقة الأجهزة الإدارية للدول ومؤسساتها الحكومية. وتكمن خطورتها في أنها تبقي عددًا كبيرًا من الأفراد في مواقع عمل لا تتطلبهم فعليًا، أو في حالات أكثر تعقيدًا، في مواقع لا يعملون فيها إطلاقًا. ومع ذلك يتقاضون رواتب وحوافز، بل وفي بعض المؤسسات العامة الخاسرة، توزّع عليهم أرباحًا لا صلة لها بجهدٍ أو إنتاج. هذه الظاهرة لا تقتصر على الهدر المالي فحسب، بل تمسّ جوهر العدالة الاقتصادية ومبدأ تكافؤ الفرص.
وتشيع البطالة المقنعة في الكثير من مؤسسات القطاع العام، لا سيما تلك التي تفتقر إلى نظم تقييم الأداء الفعّالة. في هذا السياق، يتساوى من يبذل الجهد مع من يتظاهر بالعمل، بل وقد يتفوق الأخير في الامتيازات. علاوة على ذلك، ينتج عن هذه الممارسات تشوّه في بنية العمل وتعطيل مباشر لمسار الإنتاج الفعلي. ما يجعل بيئة العمل طاردة للكفاءات، ومحبطة لأصحاب الإنجاز.
إنتاجية حدية تساوي الصفر
من ناحية أخرى، تظهر البطالة المقنعة واقعًا محبطًا حين تقاس إنتاجية بعض العاملين؛ إذ تصل إلى الصفر أو ربما ما دون ذلك، خاصةً عندما يتسبّبون في تعطيل زملائهم المنتجين أو يعوقون سير العمل الطبيعي. وفي ظل غياب ربط واضح بين الأجر والإنتاجية، تبدو المساواة بين المجتهد والمتقاعس أمرًا مؤلمًا. يفرغ فكرة الأجر من معناها الحقيقي، ويكرّس مفهوم العدالة السلبية.
وتعلن الدول معدلات البطالة الرسمية استنادًا إلى أعداد الباحثين عن عمل، فإن عدم احتساب البطالة المقنعة يجعل تلك الأرقام غير دقيقة. فلو أدرج هذا النوع من البطالة في الإحصاءات الرسمية، لارتفعت المعدلات بشكلٍ ملحوظ. كاشفة عن حجم الخلل الحقيقي في سوق العمل وفعالية السياسات التشغيلية المتبعة.
المبررات الاجتماعية والسكوت الخاطئ
كذلك، لا يجوز تبرير البطالة المقنعة بذريعة الأبعاد الاجتماعية، كضمان دخلٍ للعائلات أو تحقيق الاستقرار المجتمعي. فهذه الظاهرة لا تهدر فقط الموارد المالية للدولة، بل تضر بالقيم المجتمعية المرتبطة بثقافة العمل، والعدالة، والاستحقاق. وتشجّع ثقافة الاتكالية على حساب الكفاءة والمبادرة.
وفي سبيل معالجة هذا النوع من البطالة، لا بد من اتخاذ إجراءات إصلاحية شاملة، تبدأ بإعادة هيكلة القطاع العام. وتفعيل مبدأ ربط الأجر بالإنتاجية، وتحفيز الموظفين وفق معايير أداء واضحة. كما ينبغي تعزيز دور القطاع الخاص وتوسيع نطاق ريادة الأعمال لتوفير بدائل حقيقية تسهم في تقليص الاعتماد على التوظيف غير المنتج.
ضرورة الاعتراف قبل العلاج
كما أن الاعتراف بوجود البطالة المقنعة هو الخطوة الأولى نحو التصحيح، فإن معالجتها تتطلب إرادة سياسية، ورؤية اقتصادية ناضجة، ومجتمعًا يثمّن العمل الحقيقي لا الشكلي. فلا يمكن لأي اقتصاد أن ينهض ما دامت إنتاجيته مثقلة بعناصر لا تضيف، بل تنتقص من مسيرته، وتقف حجر عثرة أمام تطوّره ونموه المستدام.