تشكّل قصة نجاح العالم الأمريكي إرنست لورانس ملحمة علمية حافلة بالإنجازات التي غيرت مجرى التاريخ. فبعد أن ابتكر السيكلوترون، وهو أول مسرع جسيمات دوراني، فتح “لورانس” آفاقًا جديدة في عالم الفيزياء النووية.
وأدى هذا الاختراع الثوري إلى حصوله على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1939م، ليكون بذلك واحدًا من أبرز العلماء في عصره.
إرنست لورانس
أضف إلى ذلك أن “لورانس” أدى دورًا محوريًا في مشروع مانهاتن؛ حيث ساهم بشكلٍ كبيرٍ في فصل نظائر اليورانيوم. وهو الأمر الذي كان ضروريًا لتطوير القنبلة الذرية. وفي حين أن هذا الإنجاز يثير جدلًا أخلاقيًا إلا أنه لا يمكن إنكار أهميته التاريخية وتأثيره في مجريات الحرب العالمية الثانية وما بعدها.
من ناحية أخرى أسس إرنست لورانس مختبري “لورانس بيركلي الوطني” و”لورانس ليفرمور الوطني”. وهما من أبرز المراكز البحثية بالعالم في مجال الطاقة النووية والفيزياء الأساسية. وساهم هذان المختبران في تحقيق العديد من الاكتشافات العلمية المهمة، وتخريج أجيال من العلماء والمهندسين.
كما أن لهما دورًا حيويًا في تطوير التكنولوجيا النووية السلمية، مثل: توليد الطاقة النووية واستخدام النظائر المشعة في الطب والصناعة.

حياة وإنجازات العالم النووي إرنست لورانس
وُلد العالم الفيزيائي النووي الأمريكي إرنست لورانس يوم 8 أغسطس 1901م، في بلدة كانتون بولاية ساوث داكوتا. ونشأ في أسرة من أصول نرويجية؛ حيث كان والده معلمًا ومشرفًا على المدارس، ووالدته معلمة أيضًا.
وأظهر منذ صغره شغفًا بالعلوم، خاصة الفيزياء؛ ما شجعه على متابعة دراساته العليا في هذا المجال.
سنوات الدراسة والتكوين العلمي
التحق “لورانس” بعدد من الجامعات الأمريكية؛ حيث حصل على درجة البكالوريوس في الكيمياء من جامعة جنوب داكوتا عام 1922م، ثم درجة الماجستير في الفيزياء من جامعة مينيسوتا عام 1923م. وخلال دراساته العليا بدأ يظهر اهتمامًا خاصًا بفيزياء الجسيمات. وأنشأ جهازًا تجريبيًا لدراسة حركة الجسيمات المشحونة في مجال مغناطيسي.
وفي مطلع الربع الثاني من عام 1925م حصل “لورانس” على درجة الدكتوراه في الفيزياء من جامعة ييل؛ حيث أجرى أبحاثًا حول التأثير الكهروضوئي. وهي الظاهرة التي تحدث عندما تصطدم الفوتونات بسطح معدني وتقذف الإلكترونات منه. وساهم هذا البحث في تعميق فهم العلماء لطبيعة الضوء والمادة.
بزوغ نجم عالم الفيزياء النووية
بعد حصوله على الدكتوراه استمر “لورانس” في إجراء أبحاثه بمجال الفيزياء النووية؛ حيث عمل كباحث في جامعة ييل ثم انتقل إلى جامعة كاليفورنيا في بيركلي. وفي عام 1929م توصل إلى فكرة مبتكرة لتصميم جهاز جديد لتسريع الجسيمات المشحونة، أطلق عليه اسم “السيكلوترون”.
وشكّل هذا الاختراع نقطة تحول في تاريخ الفيزياء النووية؛ إذ سمح للعلماء بدراسة خصائص النوى الذرية بطريقة لم تكن ممكنة من قبل.
السيكلوترون ومشروع مانهاتن
حقق السيكلوترون نجاحًا كبيرًا، وحصل “لورانس” بفضله على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1939.
وأدى السيكلوترون دورًا حاسمًا في تطوير الأسلحة النووية خلال الحرب العالمية الثانية؛ حيث استخدم في مشروع مانهاتن لفصل نظائر اليورانيوم اللازمة لصنع القنبلة الذرية.
مسيرة إرنست لورانس العلمية المتميزة
في أعقاب حصوله على درجة الدكتوراه بدأ إرنست لورانس رحلة بحثه العلمي؛ إذ تلقى عروضًا للعمل في جامعات مرموقة مثل: جامعتي واشنطن وكاليفورنيا. واختار البقاء في جامعة ييل، ولكن سرعان ما انتقل إلى جامعة كاليفورنيا في بيركلي عام 1928م؛ حيث أصبح أصغر أستاذ في الجامعة.
في بيركلي بدأ رحلته مع الاكتشافات العلمية المهمة. ومستندًا إلى أبحاث العالمين جويليو وكوري تمكن “لورانس” وفريقه من اكتشاف نظير النيتروجين-13 من خلال قصف عنصر الكربون-13 بالبروتونات عالية الطاقة. ولم يتوقف عند هذا الحد بل اكتشفوا أيضًا، بالصدفة، نظير الكربون-14. وهو اكتشاف كانت له تطبيقات واسعة في مجالات عديدة، بما في ذلك تحديد عمر المواد العضوية.
دعم المجتمع العلمي والسياسي
بفضل علاقاته الواسعة في المجتمع العلمي والسياسي استطاع “لورانس” الحصول على تمويل كبير لأبحاثه. وانضم إلى نادي بوهميان، وهو نادٍ اجتماعي يضم العديد من الشخصيات المؤثرة في المجتمع. ما أتاح له الحصول على الدعم المالي اللازم لتطوير أبحاثه في مجال الفيزياء النووية.
وبالتوازي مع مسيرته العلمية المزدهرة أسس حياة عائلية سعيدة. حيث تزوج من ماري كيمبرلي بلومر؛ وأنجبا ستة أطفال. وأثرت علاقته الوطيدة بزملائه وطلابه في حياته الشخصية والمهنية على حد سواء؛ إذ أطلق على ابنه اسم الفيزيائي النظري “روبرت أوبنهايمر” أحد أقرب أصدقائه.
التعاون العلمي وبناء العلاقات
شهدت هذه الفترة من حياة “لورانس” تعاونه الوثيق مع العديد من العلماء البارزين، مثل: مارتن كامن وصمويل روبن؛ اللذين ساهما معه في اكتشاف نظير الكربون-14. كما تزوجت شقيقة زوجته “إلسي” من الفيزيائي إدوين مك ميلان؛ الذي حصل لاحقًا على جائزة نوبل في الكيمياء.
وكانت اكتشافات “لورانس” ونظرياته حول النواة الذرية بمثابة ثورة في مجال الفيزياء النووية. ومهدت الطريق لتطورات علمية هائلة في العقود التالية. منها: تطوير السلاح النووي والطاقة النووية.

أيقونة في تاريخ العلم
في ختام هذا الطرح نجد أن إرنست لورانس ليس مجرد عالم فيزياء بل هو أيقونة في تاريخ العلم. حيث ترك بصمة عميقة في مجالات متعددة، بدءًا من الفيزياء النووية وصولًا إلى التكنولوجيا النووية السلمية.
وتشمل إنجازات “لورانس”؛ التي تتجاوز مجرد اختراع السيكلوترون والمشاركة في مشروع مانهاتن، تأسيس مراكز بحثية عالمية ساهمت في دفع عجلة الاكتشاف العلمي. وتخريج أجيال من العلماء والمهندسين الذين واصلوا مسيرته. ورغم الجدل المثار حول بعض جوانب أبحاثه إلا أن مساهماته في فهمنا للكون لا يمكن إنكارها.