يُعد إدوارد تيلر، الفيزيائي النظري المجري الأمريكي، أحد أبرز العقول التي شكلت القرن العشرين بفضل إسهاماته الجوهرية في مجال الفيزياء النووية. اشتهر عالميًا بلقب “أب القنبلة الهيدروجينية”، وذلك لدوره المحوري في تطوير هذا السلاح الفتاك.
ولم يقتصر عبقرية تيلر على تطوير الأسلحة النووية، بل امتدت إلى مجالات أخرى في الفيزياء والكيمياء. فقد قدم إسهامات بارزة في فهمنا لطبيعة الذرة والجزيء، وتطوير نظريات جديدة في الفيزياء الإحصائية. كما شارك في تأسيس مختبر لورانس ليفرمور الوطني، الذي أصبح أحد أهم مراكز البحوث النووية في العالم. ومع ذلك، فإن دوره في تطوير القنبلة الهيدروجينية ظل يثير الجدل؛ حيث واجه انتقادات لاذعة من زملائه العلماء بسبب تبعات هذا السلاح المدمر.
وفي السنوات الأخيرة من حياته، ظل تيلر شخصية مثيرة للجدل؛ حيث دافع عن تطوير المزيد من الأسلحة النووية. واقترح حلولًا تكنولوجية جريئة لمواجهة التحديات العالمية. وعلى الرغم من الجدل الذي أحاط ببعض أفكاره، لا يمكن إنكار أن إدوارد تيلر كان شخصية مؤثرة تركت بصمة عميقة في تاريخ العلم والتكنولوجيا.

نشأة إدوارد تيلر
وُلد إيدي تيلر، في 15 يناير عام 1908م، بالعاصمة المجرية بودابست، لعائلة يهودية مثقفة. نشأ تيلر في بيئة تحفز الفكر النقدي والفضول العلمي؛ حيث كانت والدته عازفة بيانو ووالده محامي. وعلى الرغم من تأخره في النطق في طفولته، إلا أنه أظهر منذ الصغر ميلًا خاصًا للأرقام والحسابات المعقدة، ما أشار إلى عبقرية مبكرة.
أضف إلى ذلك، أن الأحداث السياسية المضطربة التي شهدتها المجر في شبابه، كصعود الفاشية والشيوعية، تركت أثرًا عميقًا على شخصيته وأفكاره. فالهروب من التمييز الديني في المجر دفعه إلى ألمانيا عام 1926م؛ حيث بدأ رحلته الأكاديمية. بدأ تيلر دراساته الجامعية في مجال الهندسة الكيميائية، لكن حبه للفيزياء وتأثره بأساتذة مثل: هيرمان مارك دفعه إلى تغيير مساره الأكاديمي. وفي حين كان والده قلقًا بشأن مستقبله المهني، إلا أن إصرار تيلر وحبه للعلم تمكنا من إقناعه.
من ناحية أخرى، شهدت حياة تيلر تحولًا جذريًا أثناء دراسته في ميونيخ؛ حيث تعرض لحادث أليم أدى إلى إعاقته. وعلى الرغم من فقدان القدرة على المشي بشكلٍ طبيعي كان بمثابة تحدٍ كبير، إلا أن تيلر تجاوزه بعزيمة وإرادة قوية. مستخدمًا الألم كدافع لتحقيق المزيد. كذلك، أثرت هذه التجربة على شخصيته، فجعلت منه شخصًا أكثر صلابة وعزيمة. وبينما كان هذا الحادث قد يوقف مسيرة الكثيرين، إلا أنه كان بمثابة نقطة تحول في حياة تيلر؛ حيث زاد من تركيزه على دراساته وأبحاثه العلمية.
بداية رحلته نحو القنبلة الهيدروجينية
في عام 1942م، خلال ندوة علمية في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، طرح إدوارد تيلر فكرة ثورية أطلق عليها اسم “السوبر”. وهي تصور مبكر للقنبلة الهيدروجينية. هذه الفكرة، التي اعتمدت على تفاعل اندماج نووي أكثر قوة من الانشطار النووي المستخدم في القنبلة الذرية، كانت بمثابة قفزة نوعية في مجال الأسلحة النووية. أضف إلى ذلك، أن تيلر كان مفتونًا بإمكانية إطلاق سلسلة من التفاعلات النووية الهائلة. ما يفتح آفاقًا جديدة للتدمير الشامل.
ومع تزايد أهمية مشروع مانهاتن، انتقل تيلر إلى مختبر لوس ألاموس في نيو مكسيكو؛ حيث عمل جنبًا إلى جنب مع نخبة من العلماء. كما كان الهدف الرئيسي للمختبر هو تطوير قنبلة ذرية، إلا أن تيلر ظل مهتمًا بشكلٍ كبيرٍ بإمكانيات “السوبر”. من ناحية أخرى، واجه تيلر صعوبات في الحصول على الدعم الكافي لأبحاثه حول الاندماج النووي؛ إذ كانت الأولوية منصبة على تطوير قنبلة انشطار ناجحة.
تأسيس فريق أبحاث الاندماج
وفي عام 1944، تم تخصيص فريق بحثي صغير لتيلر لدراسة إمكانية بناء سلاح نووي يعمل بالاندماج. كذلك، واجه هذا الفريق العديد من التحديات؛ حيث كانت الحسابات الرياضية المعقدة والافتقار إلى الموارد الكافية عائقًا كبيرًا أمام تقدم الأبحاث. وبينما كان تيلر متحمسًا لفكرته، إلا أنه لم يكن دائمًا ملتزمًا بالمهام الأخرى التي أُسندت إليه. ما تسبب في بعض التوترات مع زملائه.
وعلى الرغم من تركيزه على “السوبر”، قدم تيلر مساهمات قيمة في أبحاث القنبلة الذرية، خاصة في مجال تصميم الأجهزة الانفجارية. أضف إلى ذلك، كان تيلر واحدًا من القلائل الذين شاهدوا أول تفجير نووي في العالم. وهي لحظة تاريخية غيرت مجرى التاريخ.
عريضة سيلارد
في أعقاب اختبار ترينيتي الناجح، أطلق الفيزيائي ليو سيلارد عريضة دعت إلى إظهار قوة القنبلة الذرية لليابانيين دون استخدامها فعليًا، آملًا في إقناعهم بالاستسلام. أضف إلى ذلك، طالب سيلارد بعدم استخدام الأسلحة النووية ضد المدنيين.
وردًا على هذه العريضة، استشار تيلر صديقه وزميله روبرت أوبنهايمر، الذي طمأنه بأن اتخاذ القرار النهائي بشأن استخدام القنبلة هو من صلاحيات السياسيين. وفي حين أيد تيلر في البداية رأي أوبنهايمر، إلا أنه كتب لاحقًا رسالة إلى سيلارد يعبر فيها عن اعتقاده بأن استخدام القنبلة هو الخيار الأفضل لإنهاء الحرب بسرعة وتجنب المزيد من الخسائر في الأرواح.
تطور موقف تيلر
مع مرور الوقت، تطور موقف تيلر تجاه قرار إسقاط القنبلة. وفي حين أنه دافع في البداية عن استخدام القنبلة، إلا أنه اعترف لاحقًا بأن العلماء يتحملون مسؤولية أخلاقية كبيرة عن اختراعاتهم. ومن ناحية أخرى، أكد تيلر أن العلماء ليسوا مؤهلين لاتخاذ القرارات السياسية المتعلقة باستخدام هذه الأسلحة.
أوبنهايمر، الذي كان مستشارًا علميًا للرئيس ترومان، لعب دورًا حاسمًا في اتخاذ القرار بإسقاط القنبلة. كذلك، أسس أوبنهايمر لجنة علمية أوصت باستخدام القنبلة الذرية لإنهاء الحرب. وبينما كان تيلر قد استشار أوبنهايمر حول هذا الأمر في البداية. إلا أنه اكتشف لاحقًا أن أوبنهايمر كان له دور أكثر نشاطًا في اتخاذ هذا القرار مما كان يعتقد.

تدهور العلاقة بين تيلر وأوبنهايمر
اكتشاف تيلر لدور أوبنهايمر في اتخاذ القرار بإسقاط القنبلة أدى إلى تدهور علاقتهما. وفي حين كان تيلر يعتقد أن أوبنهايمر قد خدع، رأى أوبنهايمر أن تيلر يبالغ في أهمية دوره. أضف إلى ذلك، زادت الخلافات بينهما بسبب آرائهما المتباينة حول التطورات النووية المستقبلية.
ولا يزال قرار إسقاط القنبلة الذرية على هيروشيما وناغازاكي يثير جدلًا واسعًا حتى يومنا هذا. وبينما يرى البعض أن هذا القرار كان ضروريًا لإنهاء الحرب العالمية الثانية بسرعة، يرى آخرون أنه كان عملًا غير إنساني. كذلك، تختلف الآراء حول دور العلماء الذين شاركوا في تطوير هذه الأسلحة، بما في ذلك إدوارد تيلر.
في ختام هذا التقرير، يتضح لنا أن إدوارد تيلر كان شخصية بارزة في تاريخ العلوم والتكنولوجيا، تركت بصمة عميقة على القرن العشرين. فمن جهة، ساهم في تطوير أسلحة نووية غيرت وجه العالم، ومن جهة أخرى، قدم إسهامات جوهرية في مجالات الفيزياء والكيمياء.