مصطلح الاقتصاد الإبداعي من المصطلحات الخلافية؛ إذ إن الخلاف ليس نابعًا من تعدد وجهات النظر حول المفهوم وتحديد ماهياته وإنما لأن هناك من يرى أن هذا المفهوم متناقض وغير مستقيم في الأساس.
فالإبداع والفنون عمومًا أرفع من أن يُقال عليها إنها اقتصاد أو صناعة، ولعل ما يعضد وجهة النظر هذه أن المصطلح الذي نحته ثيودور أدورنو؛ عالم الاجتماع والفكر الألماني الراحل، والمسمى «صناعة الثقافة»، والذي أفرد له فصلًا مطولًا في كتاب «جدل التنوير» هو نقض لكل آليات وميكانيزمات استخدام الصناعة في الكسب وتحقيق الأرباح.
وغني عن البيان أن «صناعة الثقافة» مصطلح مرادف من جهات عدة لمفهوم الاقتصاد الإبداعي، لكن على الرغم من هذه الاعتراضات على ذاك المفهوم أصبح الاقتصاد الإبداعي مفهومًا شائعًا ومعترفًا به في الكثير من بلدان العالم.
فقد أشارت دراسة نُشرت في عام 2008 إلى أنه بعيدًا عن كون الاقتصاد الإبداعي ظاهرة متعلقة بالدول المتقدمة وما بعد الصناعية في أوروبا وأمريكا الشمالية فإن المعدل السريع لنمو الصناعات الإبداعية والثقافية كان يجري في كل القارات تقريبًا.
وقد كانت المملكة المتحدة من أوائل الدول التي اعتمدت مفهوم الاقتصاد الإبداعي ثم أصبح معترفًا بل معمولًا به في شتى بقاع العالم.
اقرأ أيضًا: الإبداع في الشركات.. 4 كتب تهديك السبيل
تاريخ المفهوم
بدأ استخدام مصطلح الاقتصاد الإبداعي منذ حوالي عشرين عامًا لوصف مجموعة من الأنشطة، بعضها من أقدم الفنون في التاريخ، وبعضها ظهر فقط مع ظهور التكنولوجيا الرقمية.
وقد كان للعديد من هذه الأنشطة جذور ثقافية قوية، وكان مصطلح «الصناعات الثقافية» أو صناعة الثقافة مستخدمًا بالفعل لوصف الأنشطة المتعلقة بالمسرح والرقص والموسيقى والأفلام والفنون البصرية وقطاع التراث وغيرها.
وقد أشار المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن الاقتصاد الإبداعي يعمل على ما يبدو بشكل مستقل عن الأسواق الأخرى، واستمر في النمو بمعدل عالمي يبلغ 14% حتى خلال الانكماش الاقتصادي العالمي في عام 2008.
وأفادت وكالة ناسا بأن جميع أرباب العمل في الولايات المتحدة تقريبًا (97%) يقولون إن الإبداع يزداد أهمية بالنسبة لهم، ويقول 85% من أصحاب العمل الذين يتطلعون إلى توظيف أشخاص مبدعين إنهم غير قادرين على تلبية هذه الحاجة.
ومما يظهر الأهمية المالية/ المادية لمفهوم الاقتصاد الإبداعي وما يمثله من أنشطة وقطاعات أن قيمة القطاع الإبداعي في أمريكا بلغت 763.6 مليار دولار في عام 2015؛ أي ما يعادل 4.2% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد في ذلك العام.
اقرأ أيضًا: العصف الذهني.. الوسيلة الأولى لتوليد الأفكار
ما هو الاقتصاد الإبداعي؟
يظهر أن قطاع الاقتصاد الإبداعي يطمس الحدود الفاصلة بين الصناعات؛ لأنه يقع على مفترق طرق الفنون والثقافة والأعمال والتكنولوجيا.
وقبل بيان وتعريف هذا المفهوم يجدر بنا الإشارة إلى أن هناك فرقًا بين الاقتصاد الإبداعي والصناعات الإبداعية؛ فهذا الأول _أي الاقتصاد الإبداعي_ لا يقتصر على القطاع الصناعي الإبداعي فحسب بل يشمل أيضًا التأثيرات غير المباشرة والمساهمات الإبداعية في أجزاء أخرى من النظام الاقتصادي العام.
ويشمل الاقتصاد الإبداعي وظائف في التصوير الفوتوغرافي، وتصميم الجرافيك، وتصميم الأزياء، وصناعة الأفلام والهندسة المعمارية والنشر وألعاب الفيديو، الفنون والتحف، والحرف اليدوية، والتصميم، وتصميم الأزياء، والبرامج الترفيهية التفاعلية، والموسيقى، والفنون المسرحية، والنشر، والبرمجيات، والتلفزيون والراديو.
ومن المهم الإشارة إلى أن وظائف قطاع الفنون والثقافة في أمريكا قد شكلت ثلاثة بالمائة من جميع الوظائف الأمريكية في عام 2015، بإجمالي 4.9 مليون وظيفة، وفقًا للجمعية الوطنية لوكالات الفنون الحكومية (ناسا).
وعلى أي حال يمكن تلخيص مفهوم الاقتصاد الإبداعي بشكل أفضل بأنه إمكانية كسب الدخل وتحقيق الأرباح من خلال الأنشطة والأفكار الإبداعية.
اقرأ أيضًا: جارتنر: 36% من المؤسسات الحكومية ستعزز استثمارها في الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي
تأثيرات الرقمنة
ثمة علاقة جد طردية بين الاقتصاد الإبداعي والرقمنة؛ إذ قللت الوسائط الرقمية بشكل كبير من حاجز الدخول للعمل الإبداعي؛ حيث يمكن لأي شخص بدء موقع ويب ومشاركة مقاطع الفيديو أو الوسائط الأخرى بسهولة نسبية.
وقد أدت هذه المعطيات إلى أن عددًا أكبر من الأشخاص بدأوا الانخراط في وظائف إبداعية أكثر من أي وقت مضى، سواء من خلال التوظيف التقليدي أو المشاريع الحرة الخاصة بريادة الأعمال.
ليس هذا سيئًا بطبيعة الحال، لكنه يعني من جهة أخرى أن بعض صانعي المحتوى يواجهون منافسة متزايدة على عملهم، لا يعني هذا بالضرورة وجود أزمة عمل في قطاع الاقتصاد الإبداعي، ولكنه يشير إلى مصاعب النمو المحتملة في ظل تكيف الصناعة مع العصر الرقمي.
اقرأ أيضًا:
- تعزيز الإبداع في العمل بـ5 طرق
- إنجازات الجامعات السعودية.. قفزات نوعية تُحققها المملكة في التعليم العالي
- إبداع رائدات الأعمال.. التحديات والإنجازات
- الصناعة الرقمية وريادة الأعمال
- فارس المالكي: التقدم التقني والريادي السعودي تجربة عالمية تُروى بفخر