تبدو رحلة نيكولاي ستورونسكي وكأنها فصول متسلسلة من قصة نجاح استثنائية كُتبت بعزيمة لا تعرف الانكسار. فمن طفلٍ نشأ في ضاحية روسية صغيرة، اعتاد مواجهة التحديات بضراوة بين حلبة الملاكمة وصفحات الكتب الاقتصادية المعقدة، تحوّل إلى ملياردير شاب يقود واحدة من أبرز وأسرع الشركات المالية نموًا في العالم، وهي شركة ريفولت.
خطوة بعد أخرى، انتقل ستورونسكي ببراعة من مقاعد الدراسة في معهد موسكو المرموق للفيزياء والتكنولوجيا إلى قلب العواصم المالية الكبرى في العالم. مؤسسًا رؤية جديدة جريئة لعالم التكنولوجيا المالية. ومع مرور الأعوام، تحوّل انشغاله بالأرقام والأسواق وتحليل البيانات إلى مشاريع ضخمة غيّرت مفهوم المعاملات البنكية العابرة للحدود على مستوى العالم، وتحدّت النماذج المصرفية التقليدية.
وهكذا، استطاع الشاب الروسي الطموح أن يصوغ لنفسه هوية عالمية مركبة. هذه الهوية تجمع بين الجرأة بطرح الفكرة وبين الدقة المتناهية بالتنفيذ التقني. لذا، أصبح ستورونسكي رمزًا للإبداع وريادة الأعمال بعصر الذكاء المالي؛ حيث تتكسر الحواجز الجغرافية أمام الخدمات المالية بفضل الحلول الرقمية التي قدمتها شركته.
النشأة المبكرة
وُلِد نيكولاي ستورونسكي 21 يوليو 1984 بمدينة دولغوبرودني، التي تقع على بعد نحو 20 كيلومترًا شمال مركز العاصمة الروسية موسكو. وقد اتسمت طفولته بالانضباط والاهتمامات المتنوعة؛ حيث مارس رياضتي الملاكمة والسباحة بجدية. هذا المزيج من الرياضات القتالية التي تتطلب الانضباط، والمهارات التي تتطلب التحمل، شكل سمة أساسية بشخصيته القيادية لاحقًا.

ونتيجة لهذا الانضباط، حقق لاحقًا لقب بطل الولاية خلال سنوات دراسته الجامعية. وحتى بأوقات فراغه، يمارس رياضات تتطلب التركيز والمخاطرة، مثل: ركوب الأمواج بالطائرة الورقية وتسلق الجبال. وهو ما يعكس شخصيته المغامرة. ذلك الشغف بالمخاطرة المحسوبة والجهد البدني يفسر جزئيًا جرأته باقتحام قطاع التكنولوجيا المالية المعقد.
الاهتمام المبكر بالاقتصاد
وبالحديث عن اهتماماته، بدأ ستورونسكي اهتمامه العميق بعالم الاقتصاد والأعمال بسن مبكرة جدًا؛ حيث بدأ بقراءة الكتب المتخصصة بهذا المجال وهو بالسادسة من عمره. هذا الشغف المبكر بالأرقام والأسواق كان مؤشرًا واضحًا على مستقبله بعالم التمويل. كما مهد الطريق لتأسيس رؤيته الطموحة التي تحدت النماذج المصرفية القائمة.
وتجدر الإشارة إلى أن والده، نيكولاي ميرونوفيتش ستورونسكي، شغل مناصب رفيعة بقطاع الطاقة الروسي. فقد كان نائبًا للمدير العام للعلوم، ثم أصبح عام 2019 الرئيس التنفيذي لشركة “غازبروم برومغاز”. وهي شركة غاز تابعة بالكامل للحكومة الروسية. وقد فرضت عليه الحكومة الأوكرانية عقوبات أكتوبر 2022.
التعليم المزدوج والهجرة
تميز المسار الأكاديمي لستورونسكي بجمعه بين تخصصين مختلفين، وهو ما شكّل أساسًا صلبًا لمهنته اللاحقة. فقد أكمل درجة الماجستير بالفيزياء العامة والتطبيقية من معهد موسكو للفيزياء والتكنولوجيا. هذا التكوين العلمي الدقيق، الذي يعتمد على المنطق والتحليل الكمي، منحه أدوات فريدة لمعالجة المشكلات المعقدة لاحقًا بقطاع التمويل.
بعد ذلك، سعى لتعميق معرفته المالية، لذا حصل على ماجستير آخر بالاقتصاد التطبيقي والتمويل من المدرسة الاقتصادية الجديدة بموسكو. وبعدها، انتقل ستورونسكي إلى المملكة المتحدة عام 2004. كما حصل لاحقًا على الجنسية البريطانية، وهو ما منحه قاعدة انطلاق عالمية. هذا الدمج بين الخلفية الروسية والوضع القانوني البريطاني سهّل دخوله إلى العواصم المالية الأوروبية.
المسيرة المهنية المبكرة
بدأت المسيرة المهنية الاحترافية لستورونسكي عام 2006 كمتداول لمشتقات الأسهم ببنك ليمان براذرز، وظل بمنصبه حتى عام 2008. هذه الفترة مكنته من أن يشهد عن كثب على واحدة من أكبر الأزمات المالية العالمية. ذلك التواجد بقلب الحدث منحه دروسًا لا تقدر بثمن حول هشاشة النماذج المصرفية القائمة ومكامن الخطر فيها.
وعقب انهيار ليمان براذرز، انتقل إلى بنك كريدي سويس؛ حيث واصل عمله كمتداول مشتقات حتى عام 2013. هذه الخبرة في قلب المؤسسات المالية الكبرى منحته فهمًا عميقًا لآليات العمل المصرفي التقليدي ونقاط ضعفه. كما أيقظت لديه الرغبة بابتكار حلول تقنية جذرية لتجاوز هذه السلبيات.
ميلاد فكرة ريفولت
جاءت فكرة تأسيس شركة “ريفولت” أثناء سفر ستورونسكي المتكرر. إذ لاحظ الرسوم والعمولات الباهظة وغير المنصفة التي كانت تفرضها البنوك التقليدية على المعاملات الدولية وتحويلات العملات. هذا الاستنزاف المالي دفعه للتساؤل عن جدوى هذه الرسوم بالعصر الرقمي، الأمر الذي أيقظ لديه شرارة التغيير الجذري بصناعة الخدمات المالية.
ولذا، كانت فكرته الأولى تتمحور حول تطوير بطاقة مصرفية متعددة العملات تتيح للمسافرين إجراء التحويلات المالية بسعر صرف حقيقي وتفضيلي، دون رسوم خفية أو عمولات مرتفعة. وهكذا، قرر تحدي البيروقراطية المصرفية القائمة منذ عقود، مطلقًا وعدًا بتقديم حل مالي عالمي يتسم بالشفافية والكفاءة. وهو ما كان غائبًا عن السوق تمامًا.
تأسيس ريفولت والتمويل الأولي
وفي سبيل تحقيق هذه الرؤية، شارك ستورونسكي بتأسيس “ريفولت” إلى جانب كل من فلاديسلاف ياتسينكو، الذي كان مطورًا سابقًا بكريدي سويس ودويتشه بنك، وتوم ري، المطور السابق بشركتي إكسبيديا وأوكادو. هذا الفريق المؤسس جمع بين الخبرة المصرفية العميقة والمهارات التقنية المتطورة. ما وضع أساسًا قويًا للمنصة الجديدة.
وبفضل قوة الفكرة وجاذبية النموذج، نجح المؤسسون بجمع تمويل أولي قدره 3.5 مليون دولار. ذلك التمويل مكنهم من إطلاق المنصة، التي سرعان ما أصبحت رمزًا لحركة التكنولوجيا المالية الحديثة التي تركز على المستهلك العالمي. كما رسّخ مكانتها كقوة دافعة رئيسية لتغيير ملامح القطاع المصرفي.
التوسع والوصول للهيمنة المالية
تتيح منصة “ريفولت” اليوم للمسافرين الإنفاق بأكثر من 90 دولة بأسعار صرف حقيقية تنافسية. كما تقدم حسابات وبطاقات خصم تتيح الإنفاق بالخارج دون رسوم غير ضرورية. ويمثل ذلك تحررًا من القيود المصرفية التقليدية. كما يوفر حلًا عمليًا للمسافرين والأفراد الذين يتعاملون بعملات متعددة؛ ما يعزز جاذبية المنصة على مستوى عالمي واسع.
ونتيجة لهذا النمو والانتشار، أصبحت “ريفولت” عام 2021 أكثر شركة تكنولوجيا مالية قيمة بالمملكة المتحدة، وهو إنجاز يعكس نموها المذهل. وحتى نوفمبر 2024، بلغ عدد عملائها أكثر من 50 مليون مستخدم حول العالم. كما يعمل بها أكثر من 10,000 موظف. ويبرهن هذا التوسع البشري والجغرافي على تحول الشركة من فكرة ناشئة إلى عملاق مالي عالمي.
قفزة في الثروة والقيمة
وبالحديث عن القيمة السوقية، شهدت قيمة شركة “ريفولت” قفزة هائلة؛ حيث بلغت 45 مليار دولار أغسطس 2024. هذا التقييم وضعها بمصاف عمالقة التكنولوجيا المالية العالمية. كما أرسى مكانتها كأحد أبرز نماذج الأعمال الرقمية نجاحًا بالعقد الأخير. ذلك يؤكد الثقة الكبيرة التي يوليها المستثمرون لمستقبل الشركة.
وفي المقابل، أُدرِج اسم ستورونسكي بقائمة فوربس للمليارديرات لعام 2022 بثروة تقدّر بنحو 7.1 مليار دولار. هذا النجاح الشخصي جعله يحتل المركز 336 عالميًا. ما يعكس النجاح الشخصي الموازي لنجاح شركته. ولذلك، بات ستورونسكي مثالًا واضحًا على القوة الدافعة لرواد الأعمال الذين يجرؤون على تحدي النماذج الاقتصادية التقليدية.
صندوق “كوانتم لايت”
لم يكتفِ ستورونسكي بإمبراطورية “ريفولت”، بل وسّع نشاطه ليشمل الاستثمار المبتكر. فقد أسس عام 2022 شركة “كوانتم لايت”، وهي شركة رأس مال مغامر متخصصة. هذا التوسع يؤكد رؤيته الشاملة التي لا تقتصر على التكنولوجيا المالية فحسب. بل تمتد لتشمل استغلال التقنيات المتقدمة بأسواق المال العالمية.
ولاحقًا، طورت هذه الشركة نظام ذكاء اصطناعي خاص أطلقت عليه اسم “ألف”. وظيفته الأساسية هي تحديد الفرص الاستثمارية الواعدة بالأسواق المالية بدقة تحليلية فائقة. هذا الاعتماد على الذكاء الاصطناعي بتوليد الثروة يعكس توجه ستورونسكي نحو الاستفادة القصوى من التقنيات الكمية. ما يرسخ مكانته كقائد يجمع بين التمويل والتكنولوجيا العميقة.

الإنجازات والتكريمات العالمية المرموقة
وإلى جانب ثروته المليارية، حصد ستورونسكي العديد من الجوائز والتكريمات العالمية التي تعترف بابتكاره وقيادته؛ حيث أدرجته مجلة “Welp” ضمن قائمتي “101 من مؤسسي ومديري المملكة المتحدة الجديرين بالمتابعة في 2022”. هذه التكريمات تؤكد على الأثر الكبير الذي أحدثه بالقطاع المالي. كما تبرهن على الاعتراف المتزايد بدوره كشخصية مؤثرة.
كما اختارته مجلة “تايم” عام 2024 ضمن قائمة “Time100 Next”. هذه القائمة تسلط الضوء على القادة والرواد الأكثر تأثيرًا برسم مستقبل العالم. هذا التقدير العالمي يؤكد أن نجاحه يتجاوز الحدود المالية، ليشمل الاعتراف بإسهاماته بقيادة الابتكار على المستوى الدولي؛ ما يجعله مصدر إلهام لرواد الأعمال.


