كيف يُبدع الطالب الذكي باستغلال مشروع تخرجه في دخول مجال ريادة الأعمال؟ وكيف يكون لديه العزيمة التي يواجه بها التحديات التي تعترض طريقه؟
تعود بي الذكريات إلى مرحلة البكالوريوس؛ حيث تخصصت في مجال هندسة الحاسبات ونظم المعلومات، وكان علي تقديم بحث التخرج، فقبل حلول وقت طلب مشروع التخرج، دخلت بالمصادفة محلًا متخصصًا في بيع مستلزمات الطالب والمراجع العلمية، فدار بيني وبين مدير المحل حديث حول رغبته في برنامج حاسوبي يدير أعمال المحل، ويوفر وسيلة للتواصل مع عملائه، علاوة على بعض الميزات الدعائية في البرنامج.
كان هذا بعد أن علم أنني متخصص في برمجة الحاسبات؛ إذ أبدى استعداده لدفع مبلغ مالي مجزٍ نظير هذا البرنامج. ومن باب استغلال الفرص، وافقت، لاسيما وأن المبلغ المالي المرصود سيخرجني من الأزمة المادية التي كنت أمر بها، كما هو حال مع معظم طلبة البكالوريوس!
بدأت التنفيذ، وعلى مدار ثلاثة أشهر كاملة اعتزلت فيها الزملاء والحياة الاجتماعية، فلم أكن أخرج من بيتي إلا إلى المحل الذي طلب مني البرنامج، أو إلى الجامعة؛ حتى أنجزت المشروع في وقته، وحاز- بعد معاناة كبيرة – على رضا العميل، وتمت الصفقة، وحصلت على المقابل المادي الذي كان أجمل مبلغ جنيته في حياتي؛ كونه نتيجة عمل نفذته، وليس هبة من أحد، كما أنه كان مشروع تخرجي، علاوة على أن بعض المحلات المشابهة طلبت البرنامج نفسه.
علمني هذا العمل معنى المكافأة التي تحصل عليها نتيجة إبداعك؛ لذا لم أتوقف بعدها في أي مرحلة من مراحل حياتي، دون طرح أفكار، ومبادرات، وإنتاج أعمال، أو مشاركة بمشاريع، نعم لم ينجح القسم الأكبر منها، ولكن استفدت من التجربة والخبرة، ثم منَّ الله علي -بعدها- بعدد قليل من تلك الأعمال التي نجحت فيها.
هذا التحدي أكسبني منافع لم أتخيلها، ولم تكن تخطر ببالي؛ إذ تعلمت أن القدرة على الإنجاز يمكن توليدها حتى وإن كانت الإمكانيات- المادية أو المعرفية- غير متوفرة حاليًا، لكن يستطيع العقل والجسم البشري التأقلم مع الحالة الجديدة وبلوغها، متى ما تشبع العقل بفكرة المشروع.
مشروع التخرج من أجمل الأمور في الحياة الجامعية؛ إذ يتعلم من خلاله الطالب الكثير والكثير، بشرط أن ينفذ المشروع بنفسه وبجهده، بتنفيذ ما نسبته 75% من فكرة المشروع على الأقل بجهد الطالب نفسه؛ ما يضمن- بكل تأكيد- تقديرًا جميلًا في المادة، والعمل على فكرة يقتنع بها الطالب؛ حتى يبدع فيها، كما أن مشروع التخرج يعلم الطالب العمل الجماعي، والعمل تحت ضغوط.
مشروع التخرج هو فكرة معينة تقدم حلًا أو خدمة للمجتمع في أي مجال، ولا يشترط أن تكون فكرة جديدة، بل يمكن أن تكون تطويرًا لفكرة موجودة؛ إذ يعد مشروع التخرج اختبارًا للطالب؛ بإلزامه بتنفيذ المشروع باستخدام التقنيات واللغات التي تعلمها خلال دراسته؛ أي يعد خلاصة سنوات دراسته، كما يقيس قدرات الطالب على إيجاد الحلول باستخدام التقنيات المتاحة، أو يطور حلًا من ابتكاره، واختبار قدراته في إدارة الوقت.
ويكون الطالب ملزمًا بالانتهاء من مشروعه في وقت محدد، عادة ما يكون فصلين دراسيين، فضلًا عن التزام الطالب بالعمل الجماعي؛ أي ضمن فريق مكون عادة من 2-4 طلاب؛ كون المشروع يحتاج عدة مراحل ليكون ناجحًا، فإنشاء مشروع- بدءًا بفكرته وانتهاءً بتشغيله- عملية متكاملة، تتم من خلال عدة مراحل متتابعة، يطلق عليها “دورة حياة المشروع” (Project Cycle)، وقبل كل هذا يكرس الطالب وقته وجهده من أجل الفكرة، ويدرك ما سيقبل عليه؛ لأن تحويل الفكرة إلى مشروع يتطلب كثيرًا من التضحيات والعمل.
وخلاصة المهارة التي يمكن لرواد الأعمال الدخول من خلالها، عالم المال والأعمال، في تحويل الأفكار إلى مشاريع تخرُّج؛ ومن ثم تحويلها إلى مشاريع تجارية؛ ما يخلق محركًا هائلًا للتنمية والحراك التجاري في المجتمع، لا سيما إذا عرفنا أن هناك تجارب محلية وعالمية ناجحة في هذا الجانب، كانت نواتها من مشاريع تخرُّج لطلاب تحولوا إلى رواد أعمال عظماء؛ مثل: (Google، Snapchat، Facebook، Youtube، Fedex) على الصعيد العالمي، أما على الصعيد الوطني فهناك: (عمل القرصان والأكلات الشعبية، سيارة صديقة للبيئة، ديكور مكيف الشباك الذكي، برنامج ياهلا، نموذج محاكاة الواقع لنزول سائل الدماغ مع الأنف” لتدريب الجرّاحين على عمليات ترقيع قاع الجمجمة، إبرة فدا التي تجنب الأطفال العمل الجراحي) وهي ابتكارات سعودية خالصة تناقلتها وسائل الإعلام.
إنَّ مشاريع التخرج- الكنز الحقيقي لرواد الأعمال- بقيت بعيدة عن الاستثمار في وطننا العربي خلال العقود الماضية، وقد حان الوقت للتغيير؛ إذ أصبحنا نلمس على أرض الواقع في بلادنا الاهتمام المتزايد بريادة الأعمال من خلال مشاريع التخرج؛ ومن ذلك ما تقوم به مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، وصناديق الاستثمار الجريء، و”منشآت”، وغيرها من الجهات وحاضنات