ثمة سؤال يتردد صداه في أروقة الشركات والمؤسسات وهو: كيف يفكر المدير التنفيذي؟ هذا السؤال لا يقتصر على المهتمين بعالم الإدارة، بل يتجاوز ذلك ليصل إلى كل من يتطلع لفهم آليات النجاح في عالم الأعمال.
فالمدير التنفيذي هو القائد الذي يسيّر دفة الشركة، والعقل المدبر الذي يتخذ القرارات الحاسمة التي تحدد مصيرها.
كما أن التفكير الإداري للمدير التنفيذي ليس مجرد مجموعة من المهارات الفنية، بل هو فنون متعددة تتداخل فيها العقلانية والإبداع، والرؤية الاستراتيجية والتفكير التكتيكي. علاوة على ذلك فإن المدير التنفيذي الناجح هو الذي يتمكن من ترجمة رؤيته إلى واقع ملموس. وتحويل التحديات إلى فرص، والعمل على تحقيق أقصى استفادة من الموارد المتاحة.
المدير التنفيذي
يتأثر التفكير الإداري للمدير التنفيذي بالعديد من العوامل؛ أهمها: طبيعة الصناعة التي تعمل فيها الشركة، وحجمها، ومرحلة تطورها، والثقافة التنظيمية السائدة فيها.
من ناحية أخرى فإن الخبرات الشخصية للمدير التنفيذي، وأسلوبه القيادي، وقيمه تلعب دورًا حاسمًا في صياغة نمط تفكيره.
بينما يركز بعض المديرين التنفيذيين على الجانب المالي للمؤسسة يسعى آخرون إلى تحقيق التميز في مجال الابتكار، في حين يولي البعض اهتمامًا كبيرًا بتطوير الموارد البشرية. ولكن بغض النظر عن الاختلافات في الأولويات فإن جميع المديرين التنفيذيين الناجحين يشتركون في مجموعة من السمات المشتركة، مثل: القدرة على اتخاذ القرارات الصعبة تحت الضغط، والمرونة في مواجهة التغيير، والقدرة على بناء علاقات قوية مع مختلف الأطراف المعنية.
ساعات عمل لا تعرف الراحة
تسلط دراسة حديثة أجراها باحثون في كلية “هارفارد” للأعمال الضوء على حجم الضغوط التي يتحملها المديرون التنفيذيون في شتى أنحاء العالم. ففي عالم الأعمال المتسارع يبدو أن ساعات العمل الطويلة والانشغال الدائم هما السمة المميزة لهذا المنصب القيادي.
والأرقام تُظهر أن المديرين التنفيذيين يقضون ما يقرب من 10 ساعات يوميًا في العمل، ويعملون في أكثر من ثلاثة أرباع أيام العطلات وأيام الإجازات؛ ما يثير تساؤلات حول التوازن بين الحياة المهنية والشخصية لهذه الفئة.
وكشفت الدراسة عن أن المديرين التنفيذيين يعملون في المتوسط من 7 إلى 9 ساعات يوميًا خلال أيام الأسبوع، ولا يقتصر عملهم على المكتب فقط. فحوالي نصف عملهم يتم في مقر الشركة، بينما يقضون النصف الآخر في زيارة فروعها، والاجتماعات الخارجية، والسفر.
علاوة على ذلك هم يستثمرون في المتوسط 3-9 ساعات يوميًا في العمل خلال أيام العطلة نهاية الأسبوع، و2-4 ساعات يوميًا خلال أيام الإجازات.
أسباب الجدول الزمني المكثف
تتعدد الأسباب التي تدفع المديرين التنفيذيين إلى هذا الجدول الزمني المرهق. أولها هو الطبيعة القيادية للمنصب؛ حيث تتطلب إدارة شركة كبيرة اتخاذ قرارات حاسمة والتفاعل مع العديد من الأطراف المعنية، سواء داخل الشركة أو خارجها.
كما أن المديرين التنفيذيين هم وجه الشركة؛ ما يجعلهم مطالبين بالتواجد في مختلف المناسبات والفعاليات.
علاوة على هذا الأمر فإن السفر يمثل جزءًا لا يتجزأ من حياة المدير التنفيذي، خاصة في الشركات العالمية. فلتقييم الأداء عن قرب، وبناء علاقات مع الشركاء، وتفقد المشاريع المختلفة، لا بد للمدير التنفيذي من التنقل بين مختلف المواقع. ولا يمكن إدارة شركة عالمية من المقر الرئيسي فقط، بل يتطلب الأمر تواجدًا ميدانيًا مستمرًا.
الحد من ساعات العمل
أظهرت الدراسة أن غالبية المديرين التنفيذيين أدركوا أهمية تخصيص وقت كافٍ للراحة والنوم؛ إذ بلغ متوسط ساعات نومهم 6-9 ساعات يوميًا. كما تبين أن الكثير منهم يمارسون الرياضة بانتظام؛ حيث خصصوا حوالي 9% من ساعاتهم غير العاملة للتدريب البدني.
يؤكد هذا الاكتشاف أن المديرين التنفيذيين يدركون أن الحفاظ على لياقتهم البدنية أمر حيوي لتحمل ضغوط العمل.
وأولى الباحثون اهتمامًا خاصًا بفترة الست ساعات التي يقضيها المديرون التنفيذيون في الأنشطة غير العاملة بعد الاستيقاظ. وكشفت النتائج عن أن نصف هذه الساعات تقريبًا يخصص للعائلة. هذا يدل على أنهم يسعون جاهدين للحفاظ على علاقات قوية مع أفراد أسرهم.
علاوة على هذا وجد أن المديرين التنفيذيين يخصصون حوالي ساعتين يوميًا في المتوسط لأنشطة ترفيهية وهوايات متنوعة.
التواصل المباشر
بحسب نتائج دراسة “هارفارد” فإن التواصل المباشر يشكل حجر الزاوية في عمل المديرين التنفيذيين؛ حيث يستحوذ على نسبة كبيرة من وقتهم تصل إلى 61%. هذا يعني أنهم يقضون أكثر من نصف ساعات عملهم في التفاعل المباشر مع مرؤوسيهم وزملائهم وشركائهم. بينما خصصوا 15% من وقتهم للاتصالات الهاتفية والمراسلات المكتوبة، و24% للاتصالات الإلكترونية.
وتتمثل أهمية التواصل المباشر في قدرته الفائقة على بناء علاقات قوية بين المديرين التنفيذيين وفريق عملهم. فالتفاعل وجهًا لوجه يسمح للمديرين بفهم احتياجات ومشاعر مرؤوسيهم بشكل أفضل، وبالتالي اتخاذ قرارات أكثر شمولية.
في حين يساهم التواصل المباشر في تعزيز الثقة والشفافية بين الأطراف المعنية. ما يؤدي إلى زيادة الإنتاجية وتحسين أداء الفريق.
ولا يقتصر تأثير التواصل المباشر على الجانب العملي فقط، بل يتعداه إلى الجانب النفسي والاجتماعي. فطريقة توزيع المدير التنفيذي لوقته بين مختلف أنواع الاتصال تحمل رسائل خفية حول أولوياته وقيمه.
فمن خلال ملاحظة الوقت الذي يقضيه المدير في التفاعل المباشر مع كل فرد من فريق العمل نستنتج أهمية هذا الشخص بالنسبة للمدير. وبالتالي فإن كيفية قضاء المدير التنفيذي لوقته في التواصل المباشر يعد مؤشرًا قويًا على ثقافة الشركة وقيمها.
تجنب جاذبية البريد الإلكتروني
من الناحية النظرية يساهم البريد الإلكتروني في تقليل الاجتماعات وجهًا لوجه وزيادة الإنتاجية، إلا أن الواقع يختلف تمامًا. يشكو مديرون كثيرون من أن البريد الإلكتروني يقطع سلسلة أفكارهم، ويطيل ساعات العمل، ويتداخل في حياتهم الشخصية. كما أنه غير مناسب للمناقشات التي تتطلب تفكيرًا عميقًا.
علاوة على ذلك يتعرض المديرون التنفيذيون لضغوط مستمرة للرد على جميع الرسائل، حتى تلك التي لا تتطلب تدخلهم بشكلٍ مباشر. ما يجعلهم يشعرون بأنهم مجبرون على الرد خشية أن يبدو تجاهلهم وقحًا.
وفي الغالب تتسبب الرسائل الإلكترونية المتزايدة في إغراق المديرين التنفيذيين بكم هائل من المعلومات. ما يضيع الكثير من الوقت في فرز الرسائل وتحديد الأولويات. في إطار ذلك تُشير الدراسة إلى أن غالبية الرسائل الإلكترونية تتعلق بمسائل روتينية لا تتطلب تدخل المدير التنفيذي. ما يسحبهم إلى تفاصيل العمل اليومية ويحولهم عن التركيز على المهام الاستراتيجية.
دوامة من الاتصالات غير الضرورية
من ناحية أخرى يمكن أن تؤدي رسائل البريد الإلكتروني التي يرسلها المدير التنفيذي إلى دوامة من الاتصالات غير الضرورية، خاصة إذا تم إرسالها في أوقات غير مناسبة مثل: وقت متأخر من الليل أو عطلة نهاية الأسبوع. وبالتالي يشجع هذا السلوك الموظفين الآخرين على الإفراط في استخدام البريد الإلكتروني؛ ما يسبب تفاقم المشكلة.
ولتجنب الآثار السلبية للبريد الإلكتروني توصي الدراسة بضرورة تحديد معايير واضحة للتعامل معه. وعلى المديرين التنفيذيين تحديد الرسائل التي يجب عليهم تلقيها ومتى يجب الرد عليها. كما ينبغي أن يشجعوا الموظفين الآخرين على اتباع هذه المعايير.
وبإمكان المديرين التنفيذيين الاستعانة بمساعدين تنفيذيين لمساعدتهم في إدارة البريد الإلكتروني؛ حيث يفرزون الرسائل ويفوضون العديد منها إلى الموظفين الآخرين قبل أن يصلوا إلى المدير التنفيذي.
ومع ذلك تشير الدراسة إلى أن الانضباط الشخصي هو العامل الأهم في مقاومة الإغراء المستمر للرد على رسائل البريد الإلكتروني.
الأجندة الشخصية
تعد الأجندة الشخصية بمثابة خارطة طريق تحدد الأولويات والأهداف التي يسعى المدير التنفيذي لتحقيقها خلال فترة زمنية معينة. فهي ليست مجرد قائمة بالمهام، بل مصفوفة شاملة تتضمن مجالات أوسع للتحسين والمسائل التي تتطلب معالجة عاجلة.
تجمع الأجندة الفعالة بين الأهداف قصيرة الأجل والأولويات طويلة الأمد. ما يساعد المدير التنفيذي في تحقيق التوازن بين المتطلبات المختلفة وتخصيص وقته بشكل فعال.
وفي هذا الجانب أظهرت الدراسة أن المديرين التنفيذيين يستثمرون وقتًا كبيرًا في تنفيذ أجندتهم الشخصية؛ حيث خصصوا ما يقارب 43% من ساعات عملهم للأنشطة التي تدعم أهدافهم.
وعلى الرغم من أن النسبة المئوية للوقت المخصص للأجندة تختلف من مدير إلى آخر إلا أن الغالبية العظمى من المديرين الذين شملهم الاستطلاع أكدوا أهمية الأجندة في تحسين استخدامهم للوقت والشعور بإحراز تقدم ملموس.
فوائد الأجندة الشخصية
تتمثل أهمية الأجندة الشخصية في قدرتها على مساعدة المدير التنفيذي في:
- إدارة الأولويات المتعددة: تساعد الأجندة في تحديد أهم المهام وتخصيص الوقت اللازم لكل منها. ما يضمن تحقيق التوازن بين المهام الاستراتيجية والتشغيلية.
- التغلب على التحديات: تمكن الأجندة المدير التنفيذي من مواجهة التحديات التي قد تعوق التقدم، وتحقيق الأهداف المرجوة.
- تحسين اتخاذ القرارات: توفر الأجندة إطارًا واضحًا لاتخاذ القرارات، ما يساعد المدير التنفيذي في اتخاذ خيارات أفضل وأسرع.
- زيادة الإنتاجية: تتيح الأجندة التركيز على المهام ذات القيمة المضافة؛ ما يؤدي إلى زيادة الإنتاجية وتحقيق نتائج أفضل.
في نهاية المطاف يتضح لنا أن حياة المدير التنفيذي هي مزيج معقد من المسؤولية والضغط والإنجاز. إنهم قادة يحملون على عاتقهم مسؤولية توجيه الشركات نحو تحقيق أهدافها. ولكنهم في الوقت نفسه بشر لديهم احتياجاتهم الخاصة وتطلعاتهم.
وأظهرت الدراسات أن المديرين التنفيذيين يقضون ساعات طويلة في العمل، ويتحملون ضغوطًا جمة، ويتخذون قرارات حاسمة تؤثر في حياة الكثيرين. ومع ذلك فإنهم يجدون الوقت للتواصل مع عائلاتهم وممارسة هواياتهم. ما يدل على قدرتهم على تحقيق التوازن بين الحياة المهنية والشخصية.
إن فهم كيفية تفكير المدير التنفيذي وساعات عمله ليس مجرد فضول أكاديمي، بل هو أمر بالغ الأهمية للشركات والمؤسسات. فمن خلال فهم هذه الديناميات توفر الشركات الدعم اللازم للمديرين التنفيذيين لمساعدتهم في تحقيق أقصى استفادة من وقتهم وجهودهم.
في حين يمكن للموظفين الآخرين أن يفهموا طبيعة العمل الإداري بشكلٍ أفضل، ويقدروا الجهود التي يبذلها المديرون التنفيذيون.