تُمثِّل المنطقة الخليجية مختبرًا حقيقيًا للتطور السريع والديناميكي في سوق خدمات الطعام؛ حيث تتغير تفضيلات المستهلكين بوتيرة متسارعة، مدفوعةً بمتغيرات اجتماعية واقتصادية عميقة.
هذه البيئة الحضرية التي تتسم بارتفاع مستويات الدخل، وكثافة المدن، جعلت من تناول الوجبات خارج المنزل نشاطًا اجتماعيًا وثقافيًا راسخًا وجزءًا لا يتجزأ من نمط الحياة اليومي.
ولعل التحول الأبرز والأكثر تأثيرًا يتجسد في الاندماج الكامل وغير القابل للفصل بين التكنولوجيا وقطاع المطاعم؛ إذ أحدثت منصات التوصيل ثورة شاملة في عملية الطلب والتوزيع اللوجستي.
في حين أتاح ذلك التكامل الرقمي ظهور المطابخ السحابية، والتي بدورها أعادت صياغة نموذج العمل التقليدي بالكامل، الأمر الذي أدى إلى خفض كبير للتكاليف التشغيلية وتوسع هائل في نطاق الوصول إلى المستهلكين.
الآفاق الاستثمارية والنمو المُتوقّع
يقدَّر حجم سوق خدمات الطعام في دول مجلس التعاون الخليجي بنحو 61.55 مليار دولار عام 2025. كما من المتوقع أن يصل إلى 109.9 مليار دولار بحلول عام 2030. وذلك بمعدل نمو سنوي مركب (CAGR) يبلغ 12.29% خلال فترة التوقع، وفقًا لأحدث التقارير الصادرة عن “Mordor Intelligence”.
وبشكل موازٍ يشهد القطاع تحولًا كبيرًا، مدفوعًا بعوامل رئيسة تتمثل في: تغير تفضيلات المستهلكين وتنامي الابتكار الرقمي الذي يغزو كل جانب من جوانبه.
ثقافة الأكل خارج المنزل والتأثير الحضري
تشهد سوق خدمات الطعام بدول مجلس التعاون الخليجي تحولًا بنيويًا مدفوعة بالتغيرات الاجتماعية للعادات اليومية للسكان.
وبالفعل تطورت بيئة تناول الطعام في المنطقة بشكل ملحوظ لتصبح جزءًا من الثقافة الراسخة؛ حيث يتناول نحو 40% من السكان وجباتهم خارج المنزل أسبوعيًا.
هذا السلوك يعكس ثقافة استهلاكية متنامية ومستمرة بالأكل خارج المنزل. كما يتجلى هذا التحول بوضوح بالمراكز الحضرية الكبرى التي جعلت أنماط الحياة السريعة وارتفاع الدخل المتاح من تناول الطعام بالمطاعم نشاطًا اجتماعيًا منتظمًا وضروريًا.
الريادة الرقمية وضمان سرعة التوصيل
أحدث التزاوج بين التكنولوجيا وقطاع المطاعم ثورة جوهرية بمجال الطلب والتسليم. فعملت منصات التوصيل الكبرى على تعزيز عروضها إستراتيجيًا، بتقديمها ميزات تنافسية.
تشمل هذه الميزات: توفير حقائب حرارية متطورة للحفاظ على جودة الوجبات، وضمان التسليم خلال 30 دقيقة كحد أقصى. إلى جانب إتاحة خيارات الدفع غير التلامسية لضمان راحة العميل وأمانه.
ويتجسد هذا التحول الرقمي في الهيمنة الساحقة لتطبيقات توصيل الطعام بالمنطقة؛ حيث حققت شركات رائدة، مثل: “Getir” و”Uber Eats” و”Deliveroo” عشرات الملايين من التنزيلات مجتمعة. الأمر الذي يؤكد ترسخ التكنولوجيا كعنصر أساسي بسلاسل الإمداد الغذائي.
تنويع المأكولات وظاهرة مطاعم الدمج
وفي سياق آخر يشهد القطاع أيضًا تحولًا ملحوظًا نحو تنويع المأكولات العالمية. مع الحفاظ على الارتباط القوي والعميق بالمطبخ العربي التقليدي كركيزة أساسية.
فيما بلغت استهلاكات اللحوم بالمنطقة 0.45 مليون طن متري عام 2022، الأمر الذي عزز شعبية الأطباق التقليدية والعالمية القائمة عليها.
هذا التطور أدى إلى ظهور قوائم طعام هجينة (Fusion) تجمع بين النكهات المحلية الأصيلة والتقنيات العالمية الحديثة. ويتجلى ذلك في تزايد عدد مطاعم الدمج (Fusion Restaurants).
كذلك تولت مطاعم الوجبات السريعة تكييف قوائمها لتشمل المأكولات العالمية والمحلية على حد سواء؛ حيث توسعت سلاسل، مثل: “TGI Friday’s” و”KFC” و”Burger King”. ودمجت النكهات والتفضيلات الإقليمية بعروضها.
ثقافة المقاهي الفاخرة والإنفاق على القهوة
وفيما يخص ثقافة المقاهي والقهوة أصبحت اتجاهًا بارزًا وثقافيًا بقطاع خدمات الأغذية بدول المجلس. ويتضح ذلك جليًا بالإمارات العربية المتحدة، التي وصل فيها استهلاك القهوة إلى أكثر من ستة ملايين كوب يوميًا.
ويقابل هذا الاستهلاك الضخم إنفاق سنوي يبلغ 630 مليون دولار على القهوة وحدها.
في حين أدى هذا النمو النوعي إلى انتشار واسع لكل من سلاسل المقاهي العالمية والمقاهي المحلية المتخصصة. لذلك تقدم كل من هذه المقاهي تجارب فريدة ومنتجات فاخرة للمستهلك الخليجي.
وتشير الأرقام إلى أن إمارة دبي وحدها تضم أكثر من 13 ألف مقهى ومطعم لخدمة ما يقارب 3.5 ملايين نسمة، وهو ما يعكس كثافة السوق وشدة المنافسة بين العلامات التجارية.
صعود المطابخ السحابية والبيئة الكويتية الرقمية
وفي المقابل يمثل صعود المطابخ السحابية (Cloud Kitchens) تحولًا جذريًا بنموذج التشغيل الغذائي بالمنطقة. ويظهر هذا التحول بشكل واضح في الكويت؛ إذ تبلغ نسبة انتشار الإنترنت 99% من السكان. أي حوالي 4.31 مليون مستخدم؛ ما يوفر بيئة مثالية للخدمات الغذائية الرقمية التي تعتمد على التوصيل.
وتحدث هذه المطابخ -التي تعمل بنظام التوصيل فقط- ثورة بنموذج المطاعم التقليدي. وذلك عبر خفض التكاليف التشغيلية المرتفعة وتوسيع نطاق التوصيل بمرونة.
كما أسهم نجاح منصات كبرى، مثل: “Talabat” و”Deliveroo” و”Get Dukan”. في بناء منظومة قوية للمطابخ السحابية.
نماذج التشغيل المبتكرة
مكنت هذه المنصات المطابخ السحابية من تشغيل عدة علامات تجارية من موقع واحد مركزي، مع الحفاظ على جودة وكفاءة عالية بالتحضير والتوصيل.
وفي إطار اتجاهات سوق خدمات الأغذية استحوذت مطاعم الخدمة السريعة (QSRs) في قطر على 42% من إجمالي منافذ خدمات الأغذية بالبلاد.

كما يأتي هذا النمو مدفوعًا بازدهار قطاع السياحة؛ حيث استقبلت قطر نحو 729 ألف زائر دولي بالنصف الأول من عام 2022. وهي زيادة بلغت 19% مقارنة بإجمالي عام 2021.
وتستثمر الدولة بكثافة في القطاع السياحي، الأمر الذي أدى لارتفاع عدد الزوار الذين يفضلون خيارات تناول الطعام السريعة والمريحة.
النمو المتسارع للمطابخ السحابية
وفيما يخص المطابخ السحابية من المتوقع أن تسجل أعلى معدل نمو بالسوق، بمعدل نمو سنوي مركب قدره 6.20% بالقيمة خلال فترة التوقعات. ومع انتشار تطبيقات توصيل الطعام والطلبات عبر الإنترنت، يبحث المستهلكون عن طرق أسرع وأكثر ملاءمة للحصول على وجباتهم.
وتقدم المطابخ السحابية هذا الحل عبر توصيل طعام بجودة المطاعم مباشرة إلى المنازل أو المكاتب.
وعلى صعيد المنافسة استحوذ كل من “Talabat” و”Carriage” على نحو 75% من حصة السوق عام 2022. بينما دخل لاعبون جدد إلى السوق مثل: “Deliveroo” الذي بدأ العمل في قطر عام 2022.
ويسهم نمو خدمات توصيل الطعام عبر الإنترنت في تعزيز توسع المطابخ السحابية بالبلاد.
حوافز المشاريع الصغيرة والتراخيص المبسَّطة
وفي موازاة ذلك أطلقت الحكومة القطرية عدة مبادرات لدعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وهي تشمل المطابخ السحابية.
على سبيل المثال: تقدم وزارة التجارة والصناعة حوافز مالية للمؤسسات التي تلبي معايير محددة. مثل: الابتكار والمساهمة بالتنمية الاقتصادية.
كما تم تبسيط إجراءات الحصول على تراخيص افتتاح المطاعم الجديدة؛ ما سهّل على رواد الأعمال دخول السوق والمساهمة بتنويع الخيارات المتاحة للمستهلكين.
متوسط الطلب في مطاعم الخدمة الكاملة
وفيما يخص البحرين سجلت مطاعم الخدمة الكاملة (FSRs) أعلى متوسط لقيمة الطلب عام 2022؛ حيث بلغ 29.7 دولار. هذا الرقم يمثل ارتفاعًا بنسبة 54% مقارنة بمتوسط قيمة الطلب بمطاعم الخدمة السريعة.
وأجرت هذه المطاعم تعديلات إستراتيجية على قوائمها. وذلك لجذب مزيد من الزبائن عبر تقديم أطباق فاخرة بمكونات مميزة وجودة عالية، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع متوسط قيمة الطلب بشكل ملحوظ.
وتضم القائمة أطباقًا شعبية، مثل: الجريش ومجبوس اللحم والهريس.
ارتفاع الطلب في مقاهي البحرين
علاوة على ذلك ارتفع متوسط الطلبات في المقاهي والحانات بالبحرين بنسبة 11.24% بين عامي 2019 و2022. ويعزى ذلك لزيادة استهلاك القهوة التي تحولت إلى هوس اجتماعي.
فيما أصبحت ثقافة المقاهي أكثر انتشارًا، مع تفضيل الناس شرب القهوة بالمقاهي نفسها، وهو ما ارتبط بارتفاع الطلب على القهوة المتخصصة.
لذا بدأت بتقديم أصناف راقية ومكلفة، مثل: المشروبات المتخصصة، والمعجنات الحرفية، والسندويشات الفاخرة والمبتكرة. الأمر الذي رفع متوسط قيمة الطلبات لكل عميل بشكل إجمالي.
المطابخ السحابية في البحرين
أما متوسط قيمة الطلب بالمطابخ السحابية بالبحرين فبلغ 13.4 دولار عام 2022. ويعزى توسع هذا القطاع إلى تزايد الطلب على توصيل الوجبات عبر الإنترنت كوسيلة مريحة وفعالة.
ومن أشهر الأطباق التي تقدمها المطابخ السحابية بالبحرين وتلقى رواجًا: الهريس، والكباب، والحمص، والفطاير (الفطائر). ما يظهر مرونة هذه المطابخ بتلبية الطلب المحلي بأسعار تنافسية.
المستقبل المرن للخدمات الغذائية
في النهاية تستمر سوق خدمات الطعام داخل دول مجلس التعاون الخليجي بإظهار مرونة استثنائية وقدرة فائقة على التكيف مع التطورات التقنية وتفضيلات المستهلكين المتغيرة.
ومن مطاعم الخدمة الكاملة التي ترفع متوسط قيمة الطلب عبر الفخامة، إلى المطابخ السحابية التي تخفض التكاليف عبر الكفاءة اللوجستية، تتجه المنطقة نحو نموذج غذائي هجين.
ولذلك يضمن هذا المزيج توفير خيارات تلبي كل الأذواق والمستويات الاقتصادية. ما يؤكد أن المستقبل هو للقطاعات التي تدمج التقاليد مع الابتكار الرقمي لتلبية احتياجات السوق المتزايدة.


