في نوفمبر من العام 2008، سافرت إلى مدينة بلفاست عاصمة أيرلندا الشمالية؛ لإلقاء محاضرة في مؤتمر دولي حول المنشآت الصغيرة والمتوسطة. وكعادتي بعد انتهاء المؤتمر، قمت بجولة سياحية للتعرف على معالم المدينة الصغيرة التي يزورها سنويًا ما يزيد على 8 ملايين سائح، كانوا ينفقون 430 مليون جنيه استرليني في ذلك الوقت.
يأتي معظم هؤلاء السائحين لمشاهدة حفرة كبيرة، كانت في العام 1912 مزدحمة بآلاف العمال والمهندسين الذين كانوا يَصِلون الليل بالنهار لإنجاز أكبر وأفخم باخرة لنقل الركاب في ذاك الزمان؛ وهي الباخرة “تيتانيك”، التي غرقت بعد أربعة أيام فقط من انطلاقها، وكان على متنها 2,223 راكبًا، لم ينجُ منهم سوى 706 أشخاص، فكانت مأساة بكل المقاييس، وتأملتُ كيف حولوا قصة الفشل “غرق سفينة في أول رحلة لها” إلى قصة نجاح على صعيد السياحة لاقتصاد أيرلندا الشمالية، باستثمارها وتحويلها إلى وسيلة ذكية تجتذب هذا العدد من السائحين سنويًا.
أبقى الأيرلنديون بذكاء على بيوت العمال والمهندسين المجاورة للحوض الجاف الذي بُنيت فيه الباخرة، وصارت القصة ذائعة الصيت مقروءة ومسموعة ومشهودة سينمائيًا وتلفزيونيًا.
وعلى طريقة الأصالة والمعاصرة، لفت انتباهي أيضًا – بنفس الموقع – مبنى حديث لحاضنة تكنولوجية تخرجت منها عشرات الشركات التي تصدر منتجات وخدمات بالملايين للعالم بأسرِه.
تذكرت أماكن أكثر تميزًا، زرتها خلال العشرين عامًا الماضية في أغلب بلداننا العربية – قبل ظهور الجائحة – ولكن لم يتم الاستفادة منها بالشكل المأمول:
- من مصر المحروسة التي تحتضن أعرق الحضارات وأهم آثار العالم وأخص بالذكر أهرامات الجيزة وأبو الهول ومدينتي الأقصر وأسوان إلى صنعاء القديمة في اليمن السعيد بمبانيها الأسطورية.
- من مغارة جعيتا وصخرة الروشة في بيروت إلى صخرة عبلة في عيون الجوا بوسط السعودية، والتي كانت تستظل بها عبلة من الشمس انتظارًا لقدوم عنتر، وأخدود نجران بجنوب السعودية، الشاهد على الإعجاز القرآني في سورة البروج، فأحداث الأخدود جرت منذ آلاف السنين، إلا أنني ما زلت أحتفظ بالصور التي التقطتها بنفسي لآثار العظام والحريق والنقوش الثمودية التي ما زالت تزين جدار الأخدود.
- من أعجوبة البتراء في الأردن إلى قصر حاتم الطائي في حائل ومدائن صالح في العلا بالقرب من المدينة المنورة.
- من قلعة صلاح الدين بالقاهرة وقلعة قايتباي بالإسكندرية في مصر وقلعة تاروت في شرق السعودية وقلعة الرفاع في البحرين وقلعة الحصن في حمص بسوريا إلى حصن جبرين في سلطنة عمان.
- من باب النصر وباب زويلة في القاهرة إلى باب البحر في تونس وباب اغنو في مراكش بالمغرب.
- من دار ابن لقمان بالمنصورة وبيت السحيمي في القاهرة إلى بيت القرآن في البحرين ومدينة بيت لحم في فلسطين.
- من الجامع الأزهر إلى جامع القرويين في المغرب وجامع الزيتونة في تونس.
- من برج القاهرة لأبراج الكويت وبرج خليفة في دبي.
- من جبل مرة في السودان والجبل الأخضر في أبها بالسعودية وبنفس الاسم في ليبيا وسلطنة عمان..
إنه بحق كنز السياحة المفقود في بلادنا.
عندما نتأمل الأرقام، يتضح لنا مدى التأثير الإيجابي للسياحة في الاقتصاد؛ إذ بلغ عدد السائحين الذين جابوا أنحاء العالم مليار و87 مليون سائح منذ أعوام قليلة، بحسب تقرير منظمة السياحة العالمية، ففي مصر- على وجه الخصوص- إذا استردت السياحة عافيتها ستجلب إيرادات بنحو 40 % من إجمالي صادرات الخدمات، متجاوزة جميع إيرادات المتحصلات الخدمية، وتمثل 19.3 % من حصيلة النقد الأجنبي، وحوالى 7 % من إجمالي الناتج المحلى بصورة مباشرة الذى يرتفع إلى 11.3% إذا ما أضيفت المساهمات غير المباشرة في قطاع السياحة، والمتمثلة في الخدمات المصاحبة للسفر والسياحة؛ لتشابك صناعة السياحة مع كثير من القطاعات الإنتاجية والخدمية التي تزيد على 70 صناعة مغذية في مصر.
وتُعد السياحة من أهم القطاعات توفيرًا لفرص العمل؛ حيث تصل نسبة من يعملون بها- بصورة مباشرة أو غير مباشرة- إلى حوالى 12.6 % من إجمالي حجم العمالة.
إنَّ المعالم السياحية في بلادنا العربية مُبهرة، تبكي مهمليها وتترقب زوارها قريبًا بعد زوال جائحة كوفيد-19؛ فالزوار الذين سينفقون ويثمرون عوائد، لن تُسهم فحسب في تطوير البنى التحية لهذه المعالم، بل ستضخ أيضًا أموالًا مباشرة في اقتصاد أوطاننا.
ولن تنجح السياسات الحكومية بمفردها في جذب السائحين، وإنما بعوامل أخرى؛ أهمها- من وجهة نظري- ثقافة الشعب نفسه، ومدى وعيه بأهمية استقطاب السائحين وحفاوته باستقبالهم، بدءًا من موظف الجوازات بالمطار، إلى الموظف الذي يُصدر التذكرة بالمتحف أو المزار السياحي، مرورًا بالسائق والحمَّال، وكل من يقابله السائح، فلا يجب أن ننظر إليه فقط كمصدر سريع للبنكنوت، بل كوسيلة لنشر ثقافتنا والتعريف بأخلاقنا السمحة وقيمنا الإسلامية والعربية الأصيلة؛ إذ يقول المثل العربي: ” السفر يُسفر عن أخلاق الرجال”، وقال المأمون: ” لا شيء ألذ من السفر في كفاية وعافية؛ لأنك تحل كل يوم في محِلة لم تحل فيها، وتعاشر قومًا لم تعرفهم”.
أقول للجميع وخاصة الشباب: “سافروا، وانطلقوا، وامشوا في مناكبها، وانظروا إلى الكواكب والأقمار والنجوم المضيئة في السماء فإنها لا تبقى في نفس مكانها طوال الوقت”.
اقرأ أيضًا:
ثقافة التطوع وأهميتها للباحثين عن عمل