عادةً ما تواجه الشركات الأوروبية الناشئة تحديات كبيرة في تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي المتقدمة، أبرزها التكاليف الباهظة المرتبطة بهذه التقنيات. إلا أن مزايا “ديب سيك” قلبت هذه المعادلة رأسًا على عقب؛ حيث يوفر هذا النموذج حلولًا ذكية بأسعار تنافسية غير مسبوقة.
ما نموذج ديب سيك؟
تأسست شركة ديب سيك في مطلع الربع الثالث من عام 2023م على يد ليانغ وينفنج؛ مدير صندوق التحوط الصيني. وبشكل مفاجئ انطلقت الشركة بسرعة غير متوقعة لتنافس كبار اللاعبين في مجال الذكاء الاصطناعي. ويعد ليانغ، الذي يلقب بـ”سام ألتمان الصين”، شخصية محورية في دفع عجلة تطوير الذكاء الاصطناعي في بلاده؛ حيث يركز صندوقه الاستثماري “High-Flyer” بشكلٍ أساسي على هذا المجال الواعد.
أضف على ما فات، فإن تطبيق DeepSeek تمكّن خلال فترة زمنية قصيرة من تطوير نماذج متعددة للذكاء الاصطناعي. أحدثها النموذج R1 الذي أثار ضجة كبيرة في السوق. وفي حين لاقى نموذج V3 السابق للشركة بعض الاهتمام، إلا أن القيود المفروضة عليه حول الموضوعات الحساسة أثارت تساؤلات حول قدرته على المنافسة على المستوى العالمي، وفقًا لما أوردته صحيفة وول ستريت جورنال في تقريرٍ لها.
من ناحية أخرى، تميز النموذج R1 بتكلفة تشغيل منخفضة بشكلٍ لافت للنظر، وهو ما يجعله خيارًا جذابًا للشركات التي تحرص على تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي. كذلك، فإن كون هذا النموذج مفتوح المصدر يسمح للمطورين الآخرين بالبناء عليه وتطويره، وهو ما يسرع من وتيرة الابتكار في هذا المجال.
مزايا “ديب سيك”
تدفع مزايا ديب سيك الشركات الأوروبية الناشئة إلى تبني نموذج الذكاء الاصطناعي الصيني المتقدم، الذي بات يشكّل بديلًا اقتصاديًا بامتياز. فمن خلال تخفيض تكاليف التشغيل بنسبة تتراوح بين 20% و40% مقارنة بالمنافسين، يمكّن ديب سيك هذه الشركات من الاستفادة من قدراته المتطورة دون تحميلها أعباء مالية إضافية.
علاوة على ذلك، أسهم هذا التحول في تحقيق وفورات مالية كبيرة للشركات الناشئة، مع ضمان استمرار جودة الخدمات المقدمة للعملاء. ومن ناحية أخرى، تتيح مزايا “ديب سيك” للمؤسسات إمكانية تطوير حلول ذكاء اصطناعي أكثر كفاءة وبتكلفة منخفضة. وهو ما يتيح لها في نهاية المطاف التوسع في خدماتها دون الحاجة إلى استثمارات ضخمة.
جسر العبور نحو قيادة السباق التكنولوجي
وبينما تحرص الدول الأوروبية على تقليص الفجوة التكنولوجية التي تفصلها عن الولايات المتحدة الأمريكية، تبرز مزايا ديب سيك كعامل حاسم في هذا السباق. فهو يمكّن الشركات من الوصول إلى أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي بأسعار معقولة. بالإضافة إلى أنه يعزز فرص الابتكار في مجالات متعددة، مثل: تحليل البيانات الضخمة، وتطوير البرمجيات الذكية.
كذلك، لم تقتصر مزايا “ديب سيك” على التكاليف المنخفضة فقط، بل انعكست أيضًا على شعبيته الواسعة بين المستخدمين؛ إذ تفوق على تطبيق ChatGPT ليصبح التطبيق الأكثر تحميلًا في فئة الإنتاجية على متجر Apple. هذا الإنجاز يعكس مدى جاذبيته للمستخدمين الذين يبحثون عن حلول تقنية متطورة بتكاليف أقل.
يوفر 99% من التكاليف
بينما تفرض شركات الذكاء الاصطناعي الكبرى رسومًا مرتفعة على خدماتها، تبرز خدمات نموذج “ديب سيك” بوصفها الحل الأكثر اقتصادية؛ حيث يفرض هذا النموذج تكلفة لا تتجاوز 0.014 دولار فقط لكل مليون رمز إدخال، مقارنة بتكلفة تصل إلى 2.5 دولار لدى تطبيقات OpenAI. هذا الفرق الكبير في التسعير يضعه في موقع تنافسي قوي يجذب الشركات الناشئة والمؤسسات ذات الميزانيات المحدودة.
كما أن التوسع في اعتماد خدمات تطبيق “ديب سيك” قد يعزز من استقلالية أوروبا التكنولوجية؛ إذ يقلل من اعتمادها على التقنيات الأمريكية ذات التكلفة الباهظة. وهذا التوجه بلا شك يسهم في خلق بيئة تنافسية أكثر تنوعًا، تتيح فرصًا جديدة للشركات المبتكرة التي تبحث عن بدائل فعالة.
لماذا يشكل نموذج “ديب سيك” أهمية كبرى؟
يشكّل ظهور نموذج “ديب سيك” تحولًا جذريًا في المشهد التنافسي لعالم الذكاء الاصطناعي؛ حيث يأتي في وقت تتسابق فيه الشركات العملاقة على تطوير نماذج لغوية ضخمة تتطلب استثمارات مالية وطاقية هائلة. ففي حين تنفق شركات مثل: ميتا 65 مليار دولار على تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي. وتدعو شخصيات مؤثرة مثل سام ألتمان إلى ضخ تريليونات الدولارات في هذا القطاع. تأتي ديب سيك لتقدم نموذجًا مختلفًا تمامًا.
علاوة على ذلك، فإن “ديب سيك” يتميز بقدرته على تقديم أداء مماثل لأقوى النماذج اللغوية الموجودة حاليًا. ولكن بتكلفة أقل بكثير وباستهلاك طاقة أقل. هذا الأمر يفتح آفاقًا جديدة أمام الشركات الناشئة والشركات الصغيرة والمتوسطة. والتي كانت تواجه صعوبات في دخول هذا المجال بسبب التكاليف الباهظة المرتبطة بتطوير نماذج الذكاء الاصطناعي. كذلك، فإن هذه التقنية قد تعيد تعريف المفاهيم التقليدية حول الاستثمارات المطلوبة في هذا القطاع. وهو ما يشجع على المزيد من الابتكار والتطوير.
النموذج يحمل وعودًا بمستقبل واعد
وبينما يواجه هذا النموذج الجديد بعض الشكوك، يرى مؤيدوه أنه يحمل وعودًا بمستقبل واعد. فمن المتوقع أن يساهم “ديب سيك” في تحسين كفاءة العمل في العديد من القطاعات، وفتح آفاق جديدة للأبحاث والتطوير، وهو ما يؤدي إلى تطورات غير مسبوقة في مجالات مثل: الطب والتعليم والعلوم.
وفي السياق ذاته، لاقى هذا الإنجاز العلمي إشادة واسعة من قبل المستثمرين ورواد الأعمال. فقد وصف أندريسن هورويتز، أحد أبرز المستثمرين في وادي السيليكون، نموذج “ديب سيك” بأنه “أحد أكثر الاختراقات المذهلة والمثيرة للإعجاب التي رأيتها على الإطلاق”. هذا التصريح يعكس حجم الثقة التي يوليها المستثمرون لهذه التقنية الجديدة.
وإذا كان من الممكن تحقيق هذه القوة الهائلة بتكلفة مخفضة، فإن ذلك سيفتح آفاقًا جديدة لا حصر لها. بينما يبقى السؤال الأهم: هل سيتمكن “ديب سيك” من تحقيق هذا الوعد؟ يبقى المستقبل ليكشف لنا الإجابة.