في يونيو من عام 2004 صعد “أرنو رافائيل مينكينن” إلى ميكروفون الإذاعة في مدرسة “نيو إنجلاند” للتصوير الفوتوغرافي لإلقاء خطاب حفل التخرج، وبينما كان يلقي خطابه على زملائه من الطلاب المتخرجين شاركهم نظرية كانت أحدثت فرقًا كبيرًا بالنسبة له بين النجاح والفشل، وأطلق عليها اسم نظرية “محطة باصات هلسنكي”.
نظرية “محطة باصات هلسنكي”
وُلد “أرنو مينكينن” في مدينة “هلسنكي” بفنلندا، وفي وسط المدينة كانت هناك محطة كبيرة للباصات، وبدأ حديثه في حفل التخرج بوصف هذه المحطة للطلاب قائلًا: “كان هناك حوالي عشرين محطة للحافلات في قلب المدينة وفي بداية كل محطة توجد لافتة توضح أرقام الباصات التي تغادر من تلك المحطة، على سبيل المثال: الباص رقم 21، الباص رقم 71، و58، وتسلك جميع الباصات الطريق نفسه في بداية رحلتها إلى خارج المدينة لمسافة كيلو متر واحد على الأقل، وتتوقف عدة مرات خلال رحلاتها”.
وتابع حديثه: “الآن لنفترض مجازًا أن كل محطة باص تُمثل عامًا واحدًا في حياة أحدنا، وهذا يعني فرضية أن محطة الباص الثالثة ستمثل ثلاث سنوات من نشاطنا في المجال الذي نعمل فيه، حسنًا لقد كنت تعمل لمدة ثلاث سنوات في إجراء دراسة عن أشخاص بعينهم، وتم تسمية الباص الخاص بهذه الدراسة رقم 21”.
واستطرد: “بالطبع، وباعتبارك مصورًا فوتوغرافيًا تأخذ حصيلة جهد السنوات الثلاث من العمل إلى متحف الفنون الجميلة في بوسطن.
ثم يسألك أمين المتحف عما إذا كنت مطلعًا على رسومات بعض الفنانين الآخرين -على سبيل المثال: مظاهر الحياة اليومية وبساطتها في شوارع باريس لـلرسام “روبير دوانو”- وكان الباص الخاص به، لمدة 92 عامًا، على نفس الخط، أو يمكنك أخذ أعمالك الفنية إلى معرض في باريس؛ ما قد يعيد إلى الذاكرة “بيل براندت” والباص رقم 58 وما إلى ذلك، حينئذ سوف تشعر بالصدمة عندما تدرك أن ما كنت تفعله لمدة ثلاث سنوات فعله الآخرون منذ زمن”.
وقال: “لذلك تقفز من الباص الذي تستقله، وتستقل سيارة أجرة لأن الحياة قصيرة، وتعود مباشرة إلى ساحة الباصات بدءًا للبحث عن منصة أخرى”.
وأكمل “مينكينن” نظريته قائلًا: “ثم تستقل الباص الجديد هذه المرة وتذهب لتلتقط لقطات ملونة لأشخاص مستلقين على الشاطئ، وتقضي ثلاث سنوات أخرى في ذلك وتنتج سلسلة من الأعمال التي قد تلقى ردود الأفعال نفسها مثل: ألم تشاهد أعمال “ريتشارد مسراخ”؟ أو إذا كانت أشجار النخيل باللونين الأبيض والأسود تتمايل على شاطئ البحر، ألم تشاهد أعمال “سالي مان”؟”
وأوضح: “لذلك، ومجددًا، تنزل من الباص الذي تستقله، وتأخذ سيارة الأجرة، وتعود بسرعة وتبحث عن باص جديد، ويستمر هذا طيلة حياتك الإبداعية؛ حيث تعرض دائمًا أعمالًا جديدة وتقارنها بأعمال الآخرين”.
البقاء في الباص
توقف “مينكينين” عن حديثه، وألقى نظرة على أحد الطلاب وسأله: “ماذا ستفعل؟” ثم استكمل قائلًا: “الأمر بسيط: ابقَ في الباص، ابقَ فقط ولا تتسرع؛ لأنك سوف تبدأ في رؤية الفرق مع مرور الوقت”.
وتابع “الباصات التي تخرج من مدينة هلسنكي تبقى على نفس الخط، ولكن لفترة من الوقت فقط ربما لمسافة كيلو متر أو كيلو مترين، ثم تبدأ في الانفصال، ويتجه كل باص إلى وجهته، الباص رقم 33 يتجه شمال المدينة، بينما يتجه نظيره رقم 19 إلى جنوبها”.
وأضاف: “ربما يتوافق الباصان 21 و71 مع بعضهما لبعض الوقت ولكن سرعان ما ينفصلان أيضًا، واستكمل “مينكينن” حديثه قائلًا: “إن الانفصال هو الذي يصنع الفارق؛ فبمجرد أن تبدأ رؤية هذا الاختلاف في عملك عن العمل الذي تعجب به كثيرًا يحين الوقت للنضوج، ويبدأ عملك فجأة في الظهور”.
وأضاف: “يمكنك استعادة مسار الباص بأكمله؛ لأنه وببساطة سيتم إعادة تقييم الصور القديمة التي أنتجتها منذ عشرين عامًا، وستبدأ العروض تنهال لتبيعها بسعر أعلى مقابل ما تستحقه، وفي النهاية وفي محطة توقف الباص الخاص بك، وعقب أن يخرج السائق لتناول فنجان من القهوة، قد تكون نهاية مسيرتك المهنية كفنان، لكن إجمالي إنتاجك منذ بدايتك موجود الآن أمامك يحمل رؤيتك الفريدة، هل تعلم لماذا؟ الإجابة ببساطة: لأنك بقيت في الباص الخاص بك”.
هل الاستمرار يؤدي إلى النجاح؟
غالبًا ما أكتب عن أن الإتقان يتطلب الاستمرار، ويتضمن ذلك أفكارًا عديدة مثل تحسين متوسط السرعة، وتحمل الملل. تعد هذه الأفكار بالغة الأهمية لكن نظرية “محطة باصات هلسنكي” تساعد في توضيح وتمييز بعض التفاصيل الصغيرة المهمة التي غالبًا ما يتم التغاضي عنها.
هل تؤدي الاستمرارية إلى النجاح؟
- النظر إلى الطالب الجامعي، من المحتمل أنه أمضى أكثر من 10000 ساعة في الفصل الدراسي بحلول هذه المرحلة من حياته، هل هو خبير في تعلم كل المعلومات التي يتم طرحها عليه؟ بالطبع لا؛ لأن معظم ما نسمعه في الفصل يُنسى بعد فترة وجيزة.
- فكر في شخص يعمل على الكمبيوتر كل يوم في العمل: إذا كنت في وظيفتك لسنوات فمن المحتمل جدًا أنك قضيت أكثر من 10000 ساعة في الكتابة والرد على رسائل البريد الإلكتروني، وبالنظر إلى كل هذه الكتابة هل لديك المهارات اللازمة لكتابة الرواية العظيمة القادمة؟ بالطبع “لا”.
- خذ بعين الاعتبار الشخص العادي الذي يذهب إلى صالة الألعاب الرياضية كل أسبوع؛ كان الكثير من الناس يفعلون ذلك لسنوات أو حتى عقود، هل أصبحوا مثل نخبة الرياضيين؟ هل يمتلكون قوة على مستوى النخبة؟ لا إطلاقًا.
السمة الرئيسية لنظرية “محطة باصات هلسنكي” هي أنها لا تحثك على أداء المزيد من العمل فحسب، بل على المزيد من إعادة العمل.
إعادة العمل
طلاب الجامعات العاديون يتعلمون الأفكار مرة واحدة، والأفضل من بينهم يُعيد تعلم الأفكار مرارًا وتكرارًا، ويكتب الموظف العادي رسائل البريد الإلكتروني مرة واحدة في حين يعيد الروائيون النخبة كتابة الفصول مرارًا وتكرارًا، وبينما يتبع المتحمسون للياقة البدنية روتين التمرين كل أسبوع يعيد أفضل الرياضيين ممارسة التمارين بشكل نشط ويعملون باستمرار على تحسين أسلوبهم. إن التكرار والمراجعة هما الأهم.
وكما توضح نظرية “محطة باصات هلسنكي” فإن مواصلة “البقاء في الباص” هو المفتاح لإنتاج شيء فريد ورائع، على سبيل المثال: المصورين الذين ينزلون من الباص بعد بضع محطات ثم يقفزون إلى خط باص جديد ما زالوا يؤدون عملهم طوال الوقت، إنهم يخصصون نحو 10000 ساعة من العمل، ولكن ما لا يفعلونه هو إعادة العمل، إنهم مشغولون للغاية على أمل العثور على طريق لم يسلكه أحد من قبل؛ لدرجة أنهم لا يستثمرون الوقت لإعادة صياغة أفكارهم القديمة.
وسبق ونشر “مالكولم جلادويل” في كتابه “القيم المتطرفة” قاعدة الـ 10000 ساعة، ومفادها أن الأمر يستغرق 10000 ساعة من الممارسة المتعمدة لتصبح خبيرًا في مجال معين.
ما الباص الذي ستركبه؟
جميعنا مبدعون في بعض المجالات، على سبيل المثال: المدير الذي يناضل من أجل تقديم مبادرة جديدة، والمحاسب الذي ينشئ عملية حسابية أسرع لإدارة الإقرارات الضريبية، والممرضة التي تبتكر طريقة أفضل لرعاية مرضاها، وبالطبع يعمل الكاتب والمصمم والرسام والموسيقي على مشاركة أعمالهم مع العالم؛ لذا فكلنا مبدعون.
لا شك أن أي مبدع يحاول دفع المجتمع إلى الأمام قد يواجه الفشل، ورغم أننا في كثير من الأحيان نستجيب لهذه الإخفاقات من خلال استدعاء سيارة أجرة والركوب على خط “باص” آخر (أي نستسلم ونجرب شيئًا آخر)؛ إذ ربما تكون الرحلة أكثر سلاسة عن نظيرتها السابقة، فإنه ينبغي لنا أن نبقى في الباص ونلتزم بالعمل الشاق المتمثل في إعادة النظر بأفكارنا ومراجعتها.
ولكن، ومن أجل فعل ذلك، يجب عليك الإجابة عن السؤال الأصعب على الإطلاق: أي باص سوف تستقله؟ وما القصة التي تريد أن ترويها بحياتك؟ وما المهنة التي تريد أن تقضي سنوات حياتك في مراجعتها وتحسينها؟
كيف تعرف الإجابة الصحيحة؟ لن تعرف، ولا أحد يعرف، لا أحد على وجه التحديد يعرف أفضل “باص”، ولكن إذا كنت تريد تحقيق إمكاناتك فيجب عليك اختيار “باص” وتستقله. إنه اختيارك، وعليك أن تختار، وبمجرد فعل ذلك ابقَ في “الباص”.
بقلم / جيمس كلير
اقرأ أيضًا من رواد الأعمال
5 عادات يومية لتعزيز نجاح رواد الأعمال
خمس طرق لتكون مؤثرًا.. رحلتك نحو القيادة والتألق
رواد أعمال بدأوا من الصفر.. نجاحات استثنائية
المقال الأصلي: هنا