نشرتُ مقالًا في يناير من العام 2023 بـ “مجلة رواد الأعمال” بعنوان “معنى كلمة تاجر”، ذكرتُ فيه أن أخلاقيات ريادة الأعمال تتلخص في الحروف الأربعة لكلمة “ت ا جِ ر”: التاء: تواضع وتلطف، والألف: أمانة وإخلاص وإحسان، والجيم: جرأة وجسارة وجود، والراء: رأفة ورقة ورحمة بالزبون والمنافس على حد سواء.
ممارسات غير أخلاقية
ودفعتني بعض الممارسات غير الأخلاقية التي لجأ إليها بعض المنافسين إلى الحديث اليوم عن أخلاقيات التسويق؛ فكيف يمكن لمنافس أن يسعى للطعن في منافس آخر، بدلًا من إبراز المزايا الحقيقية التي تتمتع بها منتجاته؟.
من هذا المنطلق، أدعو رواد ورائدات الأعمال وأصحاب الشركات الناشئة إلى تجنب الانزلاق في المستنقع اللاأخلاقي لممارسات التسويق؛ بالابتعاد عن الهبوط بمستوى الذوق العام، وعدم استخدام مسميات ركيكة لمنتجات تستهدف فئة الشباب، خاصة جيل الألفية الثانية Gen Z، مع مراعاة الجودة، والجوانب الصحية والغذائية لمنتجاتهم، وتقدير مدى تأثيرها على صحة جيل كامل؛ وهو ما يؤكده العديد من الأطباء الذين يشيرون إلى تغير سلبي واضح في خريطة أمراض الشباب.
صيحات رنَّانة
من الأمثلة الأخرى غير الأخلاقية في عالم التسويق، استغلال شبكات التواصل الاجتماعي بالاستعانة بما يعرف بـ”مُدَوِّنِي الطعام “Food Bloggers”، الذين يتقاضى بعضهم مبالغ مالية، مقابل خداع وتضليل الناس لتوجيههم نحو شراء منتجات غير صحية أو منتجات ذات جودة رديئة للغاية، مع التركيز المفرط على “صيحات” trends وسائل التواصل الاجتماعي، وخلق حالة مصطنعة من الضجة والهرج.
حِيَل مكشُوفة
هل من المقبول أن توجه إدارة تسويق شركة ناشئة بتأخير تسليم المنتجات للزبائن؛ بهدف خلق ازدحام مصطنع أمام الفروع لجذب الانتباه، أو الإيحاء بشدة الطلب على المنتجات؟، وكيف يمكن تبرير تسجيل اسم شركة منافسة لمنعها من دخول سوق جديدة؟.
إننا بذلك نتناسى أن الرزَّاق هو الله سبحانه وتعالى، وأن الحرف الأخير في كلمة “تاجر” يشير إلى “رأفة ورقة ورحمة بالزبون والمنافس أيضًا”.
هناك أمثلة أخرى لشركات ارتكبت ممارسات غير أخلاقية في التسويق؛ مثل شركة تصنيع سيارات ثبتت برنامجًا في سياراتها للتلاعب باختبارات الانبعاثات؛ ما أظهر نتائج أقل بكثير من الانبعاثات الحقيقية، مع تسويقها على أنها سيارات “نظيفة” و”صديقة للبيئة” بناءً على هذه البيانات المضللة.
كذلك، مارست شركات التبغ الكبرى تاريخيًا حملات تسويقية مكثفة استهدفت الشباب. وقللت من المخاطر الصحية للتدخين. وحتى مع وجود قوانين أكثر صرامة اليوم. لا يزال التسويق لمنتجات التبغ يثير جدلًا أخلاقيًا؛ بسبب حرمته الشرعية، وطبيعته الضارة.
التَّلاعُب بصحَّة المُستَهلكين
تبالغ بعض شركات الأدوية في الترويج لفوائد أدويتها، وتقلل من شأن آثارها الجانبية المحتملة. وقد تستخدم أيضًا أساليب تسويقية غير أخلاقية لإقناع الأطباء بوصف أدويتها. ما قد يؤدي إلى وصفات علاجية غير ضرورية.
وعبر التطبيقات والتقنيات الحديثة، تجمع الشركات كميات هائلة من بيانات المستخدمين دون علمهم أو موافقتهم الصريحة. ثم تستخدمها لأغراض تسويقية مستهدفة، على الرغم من أنها ممارسات تثير مخاوف جدية بشأن الخصوصية والأخلاقيات.
وهناك شركات تقدم منتجات أو خدمات ذات نتائج غير مضمونة؛ مثل بعض مكملات إنقاص الوزن. أو المنتجات التي تعد بنتائج “سحرية” دون أي أساس علمي. وهو تسويق غالبًا ما يكون مضللًا ويستغل آمال المستهلكين.
التَّأْثير على الأطفال
هذا المثال الأخير، يذكرني بمقال سابق لي نشر أيضًا في نفس المجلة بعنوان “فوضى الإعلانات” في يوليو 2019. عرضت فيه مشاهد غير أخلاقية للمعلنين؛ مثل صوت “القرمشة” الذي يصدره ممثل مشهور وهو يقضم قطع البطاطس المقلية متظاهرًا بالاستمتاع بالمذاق. ليؤثر على المشاهدين، خاصة الأطفال، ويدعوهم لالتهام هذا النوع. متجاهلًا أضراره البالغة على صحتهم، خاصة عند الإفراط في تناوله.
وكم من فضائيات ما زالت تعلن عن منتجات غذائية وصحية وأدوية مجهولة المصدر وغير مرخَصة. سببت أضرارًا بالغة للبسطاء والعامة من المشاهدين.
شعارات بَرَّاقة
وثمة مشهد آخر تهبط فيه من السماء عشرات من أبراج تقوية شبكات الهاتف الجوال في حارة ضيقة. لإقناع العامة بأن وجود هذه الأبراج فوق أسطح منازلهم لا ضرر فيه. رغم نتائج بعض الأبحاث العلمية التي تشير إلى ما تسببه من أضرار على الجسم والدماغ جرَّاء بثها إشارات منتظمة من نفس النقطة ولسنوات متكررة.
وهناك مشهد ثالث لصور صادمة تظهر آثار النخيل النادر الذي بلغ ارتفاعه 35 مترًا في إحدى البلاد العربية وعاش بأمان لمائة وخمسين عامًا. حيث قامت بعض الجهات بقطعه وإحراقه لوضع إعلانات مكان النخيل الذي تم التخلص منه للأبد.
تشويه الصُّوَر النَّمَطِية
في بعض بلداننا، لا يعاقِب القانون على التعرض للمنافس والتهكم عليه بشكل مباشر كما هو الحال في دول كثيرة. مثل بلجيكا وبريطانيا وفرنسا وفنلندا والنرويج وجنوب أفريقيا والهند، والتي منعت أي إعلان تجاري يعزز الصور السلبية عن الجنسين. مثل تصوير امرأة لا تستطيع قيادة السيارة، أو رجل لا يعرف كيف يتعامل مع الأطفال. إذ تدرك هذه الدول خطورة الإعلانات وقدرتها على تشكيل وعي المجتمع.
مشاهد متعددة نراها يوميًا في دولنا العربية تظهر غياب أخلاقيات التسويق وتنظيمه مقارنة بتلك الدول. فالإعلان وسيلة تسويقية مهمة لترويج وإبراز مزايا المُعلن عنه، ويتطلب الصدق حتى لا يكون خادعًا ومضللًا للجمهور. ما يستلزم صحوة الضمير المهني لدى المُعلن ومن ينيب عنه مثل الوكالة الإعلانية.
دعوة للصِدق والنَّزَاهة
إن الابتكار في التسويق يمكنه في واقع الأمر أن يوَجِّه ويُمَنهِج لتغيير فكر مجتمع وثقافة أجيال حالية وقادمة. لذا يجب تنظيم التسويق وحظر المضلل منه، ووضع المعايير الدقيقة لتلافي التشوه البصري والسمعي الناتج عن الإعلانات العشوائية؛ وذلك بضبط هذا القطاع.