لا يرتقي أداء المؤسسات بجهد فردٍ واحد مهما بلغت عبقريته، بل يتوقف على تمكّن القائد من تفعيل الطاقات الكامنة بفريقه كاملة. ولهذا السبب المحوري باتت عملية تعزيز الإنتاجية في العمل تحديًا محوريًا وغاية تتسابق إليها الشركات الطموحة والكيانات الكبرى التي تسعى للريادة والاستدامة.
وفي هذا الصدد تؤكد دراسة حديثة أجرتها شركة “مكينزي” الاستشارية حقيقة مذهلة: المؤسسات التي يقودها ما يعرف بـ “مضاعِفو المواهب” تحقق إنتاجية تتجاوز الضعف بـ 2.3 مرة مقارنة بغيرها.
وعلى ضوء ذلك يتغير مفهوم القيادة بشكلٍ جذري؛ فقيمة القائد اليوم تقاس بمدى قدرته على مضاعفة أثر فريقه وتحويلهم إلى قوة دافعة لا غنى عنها، لا بمجرد منصبه أو سلطته الهرمية.
تعزيز الإنتاجية في العمل
في سباق المواهب الحاد الذي يتجه نحو عام 2030 يبرز القائد المضاعِف كقيمة لا يستغنى عنها بأي مؤسسة تسعى للنمو السريع. وهذا القائد لا يكتفي بإدارة العمليات فحسب، بل يعمل كمحفز يطلق العنان لقدرات فريقه الإبداعية والمهنية.
لذلك يضمن ذلك النوع من القيادة تعزيز الإنتاجية في العمل وتحويلها إلى ميزة تنافسية مستدامة؛ ما يضع المؤسسة بمقدمة المنافسين.
وللوصول إلى هذه المرتبة يتبنى القادة 5 إستراتيجيات محورية تجعلهم مضاعفين للأداء. هذه الإستراتيجيات تركز على تحويل الممارسات التقليدية ببيئة العمل إلى محركات للابتكار والمشاركة.
وهو ما يضمن أن يكون القرار نابعًا من مشاركة جماعية لا مجرد إملاء من الأعلى. ويعكس ذلك التحول الفهم العميق لأهمية الملكية المشتركة للنتائج.
من تبادل التقارير إلى منصات التفكير
تتلخص الإستراتيجية الأولى لتعزيز الإنتاجية بإعادة هيكلة الاجتماعات. ولذا ينبغي تحويلها من مجرد تجمعات لتبادل التقارير إلى منصات تفكير جماعي حقيقية.
لذلك يتعين على القائد أن يستثمر وقت الاجتماع الثمين بتوليد حلول مبتكرة للمشكلات المعقدة، بدلًا من مجرد مراجعة ما تم إنجازه. ما يزيد من القيمة المضافة للاجتماع.
ولعل الهدف الأساسي هنا هو جعل القرار نتيجة مشاركة واسعة تعتمد على العقول المتعددة للفريق، وليس إملاءً يأتي من القمة. ويعزز هذا التحول الشعور بالملكية ويضمن أن يتمتع الفريق بأكمله بحس المسؤولية تجاه النتائج النهائية.
وبذلك يصبح كل فرد مساهمًا فعليًا بالرؤية؛ ما يضمن التزامًا أكبر بالتنفيذ.
كسر احتكار المعرفة وربطها بالمسؤولية
لتحرير طاقات الفريق وضمان تعزيز الإنتاجية بالعمل يجب على القائد كسر احتكار المعرفة التقليدي. ولذا من الضروري توزيع المعلومات المهمة والحيوية بطريقة مدروسة تعزز الوعي الشامل للفريق بالصورة الكبرى والتحديات القائمة. ذلك يضمن أن يفهم كل فرد دوره الحقيقي بالإستراتيجية؛ ما يمنع العمل بـ”صوامع منعزلة” ويوحد الجهود نحو هدف مشترك.
كما يتوجب على القائد ربط المعرفة بالمسؤولية؛ لتصبح هذه المعلومات محركًا يوميًا للأداء واتخاذ القرارات الذكية. فحينما يمتلك كل فرد المعطيات الكاملة، يمكنه المساهمة بفاعلية أكبر وتوجيه جهوده نحو الأهداف الإستراتيجية.
هذا التمكين المعرفي يلغي الحاجة إلى موافقة مستمرة؛ ما يسرّع وتيرة العمل ويزيد من مرونة الفريق في الاستجابة للتغيرات.
تحويل التحديات إلى مختبرات للابتكار
ويتميز القائد المضاعِف بكونه لا يرى الأزمات عقبات تعرقل الأداء، بل يراها فرصًا ذهبية لتحويل التحديات إلى مختبرات للابتكار. ولذلك ينبغي عليه معالجة الأزمات والمشكلات المعقدة كفرص لتجربة طرق عمل جديدة ومنهجيات مختلفة.
في حين يغرس هذا التبني لروح التجربة بالثقافة المؤسسية فكرة أن التحديات هي بوابة الإبداع، وليست نهاية الطريق.
والأهم من ذلك هو تحويل الأخطاء والتجارب غير الناجحة إلى دروس مؤسسية قيّمة يتم توثيقها ومشاركتها بصراحة. ويزيل هذا النهج الخوف من الفشل، ويشجع على المخاطرة المحسوبة اللازمة لتحقيق قفزات نوعية بالإنتاجية.
لذا تصبح الأخطاء مصدرًا للتعلم الجماعي؛ ما يعزز المرونة ويجهز الفريق للتصدي للتحديات المستقبلية بكفاءة أعلى.
بناء قادة من الصف الثاني
تتجسد قمة الإستراتيجية القيادية ببناء قادة من الصف الثاني. فالقائد الفعال هو من ينظر لكل فرد بفريقه كقائد محتمل للمستقبل، وليس مجرد منفذ للمهام الحالية.
وهذا يعني تحويل بيئة العمل من مجرد موقع للإنجاز إلى حاضنة للمواهب. الأمر الذي يضمن استمرارية الابتكار ولا يجعله مرهونًا بوجود شخص واحد بالقيادة.
نتيجة لذلك يتعين على القائد تدريبهم على المسؤولية وتفويضهم بمهام قيادية قبل أن يحتاج إليهم فعليًا. ويضمن ذلك التفويض الاستباقي وجود صف احتياطي جاهز للقيادة بالوقت المناسب.
كما يمنح الأفراد الثقة والخبرة اللازمة لتولي أدوار أكبر. وهو ما يعزز الاستدامة القيادية ويقلل من مخاطر الفراغ بالقيادة.
دمج الأهداف الفردية
وفي إطار الإستراتيجيات المكملة تتعلق الإستراتيجية الأخيرة بدمج الأهداف الفريدة لكل موظف مع الرؤية الكبرى للمؤسسة. فالقائد البارع هو من يستطيع أن يربط الإنجازات الصغيرة اليومية بالمسار الإستراتيجي العام للشركة.
بينما تتطلب هذه العملية وضوحًا بالأهداف وتواصلًا مستمرًا حول كيفية مساهمة الجهد الفردي بالنجاح الجماعي.
وبالطبع فإن الغاية النهائية هي أن يشعر كل موظف بأثره المباشر والواضح بالصورة الكاملة للنجاح. ويوفر هذا التكامل بين الطموح الشخصي والرؤية المؤسسية دافعًا داخليًا قويًا لا يمكن تحقيقه بالتحفيز الخارجي وحده. ما يضمن التزامًا عميقًا وطويل الأجل بأهداف المنظمة ورسالتها.