أصبح الوصول إلى الخدمات المالية حقًا إنسانيًا واقتصاديًا أساسيًا لا يمكن التنازل عنه، متجاوزًا بذلك كونه مجرد رفاهية تقتصر على فئة دون غيرها. وبهذه الرؤية المتجددة، يتحول مفهوم التنمية الاقتصادية ليصبح أكثر شمولًا واستدامة، مركزًا على توزيع فرص الازدهار على كافة أطياف المجتمع. وعليه، اكتسب مفهوم الشمول المالي مكانة محورية على أجندة صناع السياسات المالية والاقتصادية حول العالم.
في الأساس، ينظر إلى الشمول المالي بوصفه حالة وعملية ضرورية لضمان إتاحة الخدمات المصرفية وغير المصرفية بتكلفة معقولة، وجودة عالية، ودون قيود غير مبررة لجميع شرائح المجتمع. وتبرز أهمية هذا التوجه بشكلٍ خاص تجاه الفئات الأكثر تهميشًا والأفراد ذوي الدخل المنخفض. بالإضافة إلى المشروعات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر، التي تعد عصب النمو في الاقتصادات الناشئة.
الشمول المالي
يمثل الشمول المالي بجوهرة إستراتيجية مزدوجة الأبعاد. فهو من ناحية يمثل “حالة” مستهدفة تسعى إليها الدول، ومن ناحية أخرى، هو “عملية” مستمرة تتطلب تخطيطًا وتنفيذًا دقيقين. تضمن هذه العملية الوصول الكامل والمستدام إلى كافة الخدمات المالية الأساسية والاستثمارية لجميع عناصر الاقتصاد الكلي، سواء كانوا أفرادًا أو مؤسسات، وفقًا لتوصيف صندوق النقد الدولي. ولذلك، بات الشمول المالي ركيزة أساسية لتحقيق التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية.
كما أن الالتزام بمسار الشمول المالي بمفهومه المتقدم ليس مجرد إعراب عن رغبة أو أمنية طموحة. بل هو التزام واعٍ له محددات عدة تؤثر بشكلٍ مباشر بحجم الانتشار. ومن ثم، تتحكم هذه المحددات بالآثار الإيجابية المتوقعة على صلابة واستدامة الاقتصاد الكلي. ولذلك، يتطلب الشمول المالي تضافر الجهود بين القطاعين العام والخاص. إضافة إلى تبني بنية تحتية رقمية قوية لضمان وصول الخدمات إلى الفئات المهمشة.
متطلبات تحقيق الشمول المالي
لكن، تطبيق هذا المفهوم الواسع والحيوي على نطاق شامل لا يتحقق بسهولة؛ إذ يواجه تحديات جمة تتطلب توفير محددات ومتطلبات أساسية لضمان نجاحه. وبناءً على هذا، يمثل تلبية هذه المتطلبات أحد أهم التحديات التي تواجه برامج التحول بالعديد من الدول؛ حيث تتطلب معالجة شاملة تتناول جوانب البنية التحتية، والتشريعات، ورفع الوعي المالي للمواطنين.
-
توسيع البنية التحتية:
يأتي في طليعة هذه المتطلبات ضرورة توسيع شبكة مزودي الخدمات المالية الرسمية بشكلٍ جذري. ويشمل ذلك البنوك، وشركات الصرافة، ومكاتب البريد، وشبكات الصراف الآلي، والبطاقات الائتمانية وبطاقات الخصم، وشركات التأمين. ولذلك، ينبغي أن تمتد هذه الشبكة لتغطي كافة المناطق الجغرافية، بما فيها الأرياف والمناطق النائية بالدولة، على نحو يقلل بشكلٍ كبيرٍ من رقعة المناطق المحرومة ماليًا.
-
التحول الرقمي:
وفي سياق متصل، يمثل التوسع بتقديم الخدمات المالية الرقمية عبر الهاتف المحمول والشبكات الإلكترونية ركيزة أساسية أخرى. وإلى جانب ذلك، لا بد من إنشاء قواعد بيانات شاملة ودقيقة تتضمن السجلات التاريخية للبيانات الائتمانية للأفراد والمشروعات. هذا الإجراء يساهم بتحديد القدرة الائتمانية للعملاء بدقة عالية؛ ما يساعد المؤسسات المالية على اتخاذ قرارات منح التمويل على أسس سليمة وموضوعية.
-
الثقافة المالية:
ومن الضروري بمكان تعزيز ونشر الثقافة المالية بالمجتمع بصفة عامة، وبشكلٍ خاص بين جموع الفئات المستبعدة ماليًا من القطاع الرسمي. ويهدف هذا التعزيز المعرفي إلى رفع مستوى الوعي والثقة، وهو ما يدعم قبول هذه الفئات للاندماج الطوعي بالمنظومة المالية الرسمية وقبول مبادرات الشمول المالي. ولذلك، تعدّ الثقافة المالية جسرًا للاندماج؛ إذ تمنح الأفراد القدرة على الاستفادة المثلى من الأدوات المالية المتاحة.
-
الإطار التنظيمي:
يتطلب هذا التحول إيجاد بيئة تنظيمية وتشريعية ورقابية مواتية تتسم بالمرونة والفاعلية. كما تشمل هذه البيئة تشكيل آليات للتعامل مع المخاطر وجوانب عدم التأكد المرتبطة بتوسيع قاعدة العملاء. ويجب وضع آلية للتعامل مع احتمالات تساهل بعض البنوك بمعايير منح الائتمان. الأمر الذي قد يؤدي إلى زيادة بحدة المخاطر الائتمانية على مستوى النظام.
-
تخفيف التكلفة:
ولضمان جاذبية الخدمات، ينبغي العمل على خفض التكلفة الإجمالية للخدمات المالية الرسمية المقدمة للمستفيدين. كما من الضروري أن يترافق ذلك مع تقليل عدد المتطلبات الوثائقية والمستندية إلى أدنى حد ممكن. ويهدف هذا الإجراء إلى إزالة العوائق البيروقراطية التي تبعد الفئات المهمشة عن التعامل مع القطاع الرسمي. وهو ما يشجعهم على الاندماج الطوعي بالمنظومة المالية ويزيد من فعالية مبادرات الشمول.
-
التحديات المزدوجة:
وفي المقابل، تبرز تحديات جمة تعيق عملية الشمول المالي في حال عدم استيفاء متطلبات التحول والتغيير المذكورة سابقًا بشكلٍ كامل ومحكم. ولذلك، تنقسم هذه التحديات إلى نوعين رئيسيين: عوائق فنية ناتجة عن غياب أو قصور ببعض المتطلبات الهيكلية، وعوائق اقتصادية مرتبطة بالهيكل الكلي للاقتصاد. والتي يمكن أن تحد بشكل كبير من فاعلية المبادرات المطبقة.
-
ضرورة التغلب على المعوقات:
وتمثل العوائق الاقتصادية تحديًا هيكليًا عميقًا؛ حيث ترتبط بمتغيرات الاقتصاد الكلي مثل: مستويات التضخم والبطالة وعدم المساواة. هذه العوامل يمكن أن تقوض أي جهود للشمول، ما لم تتم معالجتها بالتوازي مع تعزيز البنية التحتية المالية. ولذا، يتطلب النجاح معالجة مزدوجة تجمع بين الإصلاح الاقتصادي الكلي والتحسين التقني للخدمات المالية.
الالتزام بالتفاصيل لضمان الاستدامة
في المحصلة، يمثل الشمول المالي نقطة تحول مصيرية تتطلب التزامًا متزايدًا من الحكومات والمؤسسات المالية لتجاوز التحديات الفنية والاقتصادية. هذا التحول ليس هدفًا بحد ذاته، بل هو وسيلة إستراتيجية لتمكين الأفراد والمشروعات من الوصول إلى الأدوات اللازمة للنمو. ومن ثم، يتحقق الأثر الاقتصادي والاجتماعي المنشود على نحوٍ شاملٍ ومستدام.