يمكن القول جدلاً؛ إن العملات الرقمية هي آخر ما تم التوصل إليه في مجال المال والأعمال التي تم التحدث عنها في السنوات الأخيرة؛ بل تكاد تكون أكثرها ابتكاراً. فهي تمثل بالنسبة للكثيرين أنشطة مبهمة وسرية ذات مخاطر عالية وإذا كان لها وجود حقيقي ينبغي أن تكون على هامش الأنشطة الاقتصادية وليس في مركزها. أما بالنسبة للآخرين فالعملات الرقمية هي الأحدث والأكثر تطوراً، فهي قابلة للتحول بطريقة يكون فيها المال أو العملة متوافقاً مع عصرنا الرقمي الحالي.
هنا يبرز السؤال: ما هي العملات الرقمية و على أي أساس بُنيت؟ و ما هو مقدار الثقة في الفكرة وآليتها وثقافتها ؟
لم تكن هذه الأسئلة الواضحة مطروحة إلى حدٍ كبير حتى أواخر التسعينات عندما أفرغت ظاهرة “دوتكوم” رأس المال الاستثماري في جميع أنحاء العالم، وبعد نصف عِقد من ذلك الوقت أصبحت ما يسمى بأدوات الدين غامضة على نحو متزايد في الأسواق المالية. كانت فقاعة “دوتكوم” التي انفجرت في عام 2000م مدمرة تاريخياً في حين إن الأزمة المصرفية في عام 2008م قلبت تقريباً النظام المالي العالمي!
العملات الرقمية وأشهرها وأولها “البيتكوين” تستخدم التشفير لتأمين إصدار الأموال الإلكترونية وتداولها بين الأطراف. الرقابة والتنظيم ذات الصلة التي تنطبق على العملات الرقمية تأتي من القطاع الخاص بدلاً من الأطراف الحكومية. هذه العملة يتم المحافظة فيها على نظام تسجيل يسمى “block chain” أو “الكتلة المتسلسلة”، وهذا النظام في جوهره، هو سلسلة من السجلات الرقمية كل منها يقوم بتسجيل الوقت والكمية والتأكد من صحة تاريخ المعاملات ذات الصلة. هذا هو نظام التسجيل للمعاملات بين الأطراف.
وبالنظر إلى ما سبق؛ فإن آلية العملات الرقمية تضعها أبعد من نظيراتها ما عدا المختصة رقمياً وذكية مالياً. ومع ذلك، فإن الارتفاع الأخير المفاجئ في قيمة هذه العملات اجتذبت نوعاً من المستثمرين الذين يفتقرون إلى هذا الاختصاص ويرغبون بالحصول على هذه الأرباح وهذا يجعل استثماراتهم عالية المخاطر.
ولكن علاوة على ذلك فإن واحدة من عوامل الجذب والصفات التي طال انتظارها في هذا النوع من العملة؛ هو عدم الكشف عن هوية الأطراف المتعاملة هذا ايضاً أدى إلى جذب اهتمامات إجرامية وأيضاً وضع العملات الرقمية في الظل من المعاملات المالية – وكذلك في الظل من الخيال العام!- بالإضافة إلى ذلك فإن عدم وجود أي شكل من أشكال الدعم المصرفي المركزي يحرمها من الوصول الى الأصل المفترض لأي عملة. وهذا يعني، لا يوجد شيء آخر غير الثقة لدعم العملة .. لا الاقتصاد الوطني ولا احتياطي الذهب، أو غيرها من السلع.
أخيراً، إن عدم وجود تنظيم حكومي تطبيق على عالم العملات المشفرة أو المعماة يحرم المستثمرين وغيرهم من المتعاملين بها من الحماية الأساسية عند التعامل مع الوكلاء والمؤسسات المالية التقليدية.
وبالنسبة لمهنة المحاسبة، فإن هذا يمثل تحديات أكثر من أنه يتيح الفرص. الروح في العملات الرقمية تمثل كل شيء أما المحاسبة ليست كذلك. في الأولى هناك اعتماد على المغامرة، المخاطرة، عدم الوضوح، والثقة، في حين أن المحاسبة ترتكز على المحافظة والتقليل من المخاطر وإمكانية الوصول ومسارات التدقيق.
ومع ذلك، نلاحظ انخفاض كبير في دور العنصر البشري في عملية حفظ السجلات و الآليات الأخرى المتعلقة بالعملات الرقمية مقارنةً مع النظم المحاسبية السائدة اليوم.
ويمكن أن يؤدي ذلك إلى تغيير حفظ السجلات، بطريقة تقلل الضرر من احتمالية الخطأ البشري أو سوء السلوك. أيضاً قابلية التطوير وقلة التكلفة في توسيع نطاق هذه التكنولوجيا في هذه العملة العالمية تعني اختفاء مخاطر صرف العملات الأجنبية ووزن التخطيط والتنظيم المترافق معها.
فضلاً عن ما ذكر على الرغم من أننا نرى السلبيات في العملات الرقمية فإنه يجب أن لا نلغي مستقبلها. وهذا يعني أن مهنة المحاسبة لن يكون أمامها خيار سوى التعامل مع فكرتها، وبالتالي ينبغي أن تكون إيجابية تجاهها بدلاً من التركيز فقط على السلبية. صور الثقافة والعلامات التجارية تتغير. وفي وقت ما قد يقوم صانعي القرار أصحاب الصلة من إبعاد العملات الرقمية من ظلمتها وربطها بالجمعيات والجهات التنظيمية الوطنية او الدولية – بما في ذلك الهيئات المحاسبية – و من ثم جلبها تحت جناح اللوائح.
ومن الواضح أيضاً أن الأفراد والمنظمات أصبحت أكثر دراية بالتكنولوجيا وأكثر اندماجاً مع التقنيات الرقمية مع مرور الوقت، وإن الثقة تتزايد بسرعة في الفضاء الإلكتروني. وقد كان لتخصص المحاسبة دور القيادة في ذلك في العقود الأخيرة.
وبالرغم من ذلك، قد يفشل القبول المجتمعي ليس بسبب قضية الثقة؛ ولكن بسبب الابتكارات الأخرى. طرق الدفع غير الورقية، الدفع اللامتصل أضحت أقل تكلفة من أي وقت مضى وأيضاً تقوم منصات الدفع الحديثة والمتعددة بإرسال الأموال إلى جميع أنحاء العالم وخلال ثوان وما إلى ذلك. المزايا آنفه الذكر هي المزايا التنافسية للعملات الورقية التي تعوض عن وضوح المخاطر والصفات المجهولة!
عالمي العملات الرقمية والمحاسبة لديهما الكثير ليقدمانه لبعضهم البعض.
سارة عبد العزيز المعيذر
محاضرة في قسم المحاسبة – جامعة الملك سعود
تعليق واحد
سارة انتي رائعة