“كَاي زِن”..وإتقان العمل

حاولت التوقف عن تأمل جودة النقوش الدقيقة التي تزين مسجد قرطبة في أسبانيا، فلم أستطع؛ فقد كان الإبداع ظاهرًا والإتقان حاضرًا، وسببًا في جذب ملايين السائحين لزيارة المكان.

شعور مماثل لإعجابي قديمًا بمنتجات خان الخليلي، ومشهد الصُنَّاع في إنتاج الأشغال النُحاسية الدقيقة التي نَدُرَ وجودها الآن.

أصل الجودة: (ج ود)، وهو أصل يدل على كثرة العطاء، فالجواد هو السخي، والجيد ضد الرديء، وأجاد؛ أي أتى بالجيد من القول أو الفعل. ويقال أجاد فلان في عمله وأَجْوَدَ، ورجل مُجيد؛ أي يجيد كثيرًا.

وتُعد الجودة من أهم عوامل النجاح؛ إذ يعرِّفها البعض بأنها قدرة المنتج أو الخدمة على الوفاء بحاجات العميل. والجودة تعني التناسق والانسجام بين ما يتوقعه العميل، وبين ما يتم تحقيقه فعليًا.

ولقد تطور مفهوم الجودة منذ الخمسينيات وحتى الآن؛ حيث نشأ الاهتمام بما يسمى “الرقابة على الجودة” بعقد الخمسينيات، وكانت تركز على فحص الأخطاء والعيوب بعد الانتهاء من المنتج أو الخدمة، ثم تطور المفهوم إلى “توكيد الجودة” خلال الفترة من منتصف الستينيات إلى منتصف السبعينيات؛ حيث بدأ التركيز على عملية التخطيط لتقليل العيوب والأخطاء.

ومنذ بدء الثمانينيات حتى منتصف التسعينيات، صارت “إدارة الجودة” منظومة متكاملة تضع العميل في بؤرة التركيز والاهتمام؛ حتى جاء مفهوم “إدارة الجودة الشاملة” منتصف التسعينيات وحتى الآن؛ لتؤكد مسؤولية الجميع من أصغر موظف أو عامل إلى رأس الهرم الوظيفي، والتي يُعرفها البعض بأنها فعل الأشياء الصحيحة بالطريقة الصحيحة من المحاولة الأولى.

وتدخل الجودة في شتى مناحي الحياة والأنشطة والقطاعات، ففي مجال الصناعة تركز الجودة على شبه انعدام عيوب التصنيع، وفي مجال الرعاية الصحية، تضع الجودة المريض في بؤرة الاهتمام بالتشخيص الصحيح والسريع والدواء الناجع، وفي مجال الطيران يشعر بها المسافر، إذا أقلعت الطائرة في موعدها، وكانت أموره مُيسرة ومقاعده مريحة وطعامه شهيًا. وفي مجال التعليم، يمكن تلخيص الجودة في أبسط صورها بكيفية إعداد الطلاب للمستقبل، وتزويدهم بالمعارف الحديثة في أجواء مريحة لهم ولأسرهم.

وكما أن هناك شهادات للجودة- مثل الأيزو ISO (المنظمة الدولية للمعايير)، والهاسب HACCP ( نظام وقائي يُعنى بسلامة الغذاء)- فهناك أدوات متقدمة للجودة مثل كَاي زِن Kai Zen (باللغة اليابانية تعني التغيير للأفضل)، وبطاقة الأداء المتوازنBalanced Scorecard التي تعمل على أربع مناطق بالمنظمة؛ وهي الأمور المالية والعمليات، والعملاء، والموظفين، وSix Sigma التي تسمح بـ 3.4 منتج معيب فقط لكل مليون منتج.

ولا زلت أذكر مُعلمي الياباني؛ البروفيسور فوجيتا الذي تعلمت منه كيف نطبق كَاي زِن في شتى مناحي الحياة من خلال أفكار بسيطة تقوم على التحسين المستمر بعمل شيء قليل بطريقة أفضل كل يوم، ومحاولة جعل العمل اليومي أكثر تبسيطًا بدراسته؛ ومن ثم القيام بالتحسين من خلال عدم إهدار الوقت والجهد والمال.

إن مفهوم الجودة ليس بجديد؛ إذ يقول الله سبحانه وتعالى: (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)، وقوله سبحانه: (إِنَّا لَا نُضِيع أَجْر مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا)، ومن الأحاديث الشريفة: قوله صلى الله عليه وسلم (إنَّ اللهَ يحبُّ إذا عمِلَ أحدُكُم عَمَلًا أنْ يُتْقِنَه). ومن هنا، لا أقول فقط اعملوا ، بل أتقنوا العمل، وجَوِّدوه، وحسِّنوه، واحتسبوه لوجه الله تعالى

الرابط المختصر :

عن د/نبيل محمد شلبي

دكتوراه الفلسفة بالهندسة الصناعية من كلية الهندسة بجامعة المنصورة. مؤسس ورئيس دار المستثمر العربي Arab Entrepreneur House للخدمات الاستشارية. نائب رئيس بنك جون كراكنل لتمويل مشروعات شباب شرق انجلترا. خبير دولي في نشر ثقافة ريادة الأعمال وتنمية المنشآت الصغيرة والمتوسطة. يتمتع بخبرة واسعة في تقديم حلول مبتكرة للحكومات والمؤسسات والمنظمات غير الربحية والجامعات. ألف 33 كتابًا، منهم الكتاب الأكثر مبيعًا "ابدأ مشروعك ولا تتردد"، الذي اختير كمنهج لريادة الأعمال بجامعة الملك سعود بالمملكة العربية السعودية. صمم أول خريطة تفاعلية للبيئة الداعمة (الإيكوسيستم) لريادة الأعمال في مصر تضم 351 قناة دعم في إصدارها السابع، والمنصة العالمية لريادة الأعمال التي تضم 1085 قناة دعم من 70 دولة. حصل على الجائزة العالمية "الفكرة الأكثر إبتكارًا" من المجلس الدولي للمشروعات الصغيرة. صمم ونفذ مئات البرامج التدريبية في ريادة الأعمال للمبتدئين والمبتكرين، تخرج منها المئات. يقوم بإعداد مناهج تعليم ريادة الأعمال بالجامعات العربية. قدم أكثر من 8 آلاف استشارة لرواد الأعمال وأصحاب المنشآت الصغيرة والمتوسطة. عمل مديرًا لأول حاضنة تكنولوجية داخل حرم جامعي في مصر. أسس وأدار أول مركز تنمية منشآت صغيرة بالسعودية. صمم أول برنامج لتأهيل المصانع الصغيرة والمتوسطة بالسعودية. صمم أول حاضنة تكنولوجية في الخليج العربي. صمم جوائز للأفضل أداءً من المنشآت الصغيرة والمتوسطة، وبرامج كمبيوتر لتشخيص المنشآت الصغيرة والمتوسطة الإنتاجية. له مقالات دورية في مجلات "رواد الأعمال" و"الاقتصاد اليوم" و "الاقتصاد الخليجي"، و"لغة العصر". درَّس لطلاب الهندسة بمعهد مصر العالي للهندسة والتكنولوجيا، وطلاب الدراسات العليا بمعهد تكنولوجيا المعلومات ITI، وطلاب قسميّ الهندسة الطبية والميكاترونيكيس بكلية الهندسة بجامعة المنصورة. اختير ضمن أفضل 100 شخصية في العالم في مجال الإبداع وريادة الأعمال من منظمة "إنتوفيجن" الأمريكية. اختير مستشار بناء قدرات ريادة الأعمال والمنشآت الصغيرة لـ 57 دولة أعضاء بمنظمة التعاون الإسلامي. تم تكريمه في أمريكا وماليزيا وأيرلندا والعديد من البلدان العربية والأجنبية

شاهد أيضاً

مهارات شخصية

مهارات شخصية لحياة مهنية ناجحة

في ظل المنافسة الشّديدة بمجال العمل يحرص القادة على اختيار أفضل المرشّحين للوظيفة، ممن يتمتعون …