لم تكن رحلة كلود شانون إلى صدارة علماء القرن العشرين رحلة عادية. فمنذ طفولته المبكرة؛ حيث كان يعبث بالأجهزة الإلكترونية في منزله، وحتى وفاته، ظل شغوفًا بفك شفرة الكون الرقمي. هذا الشغف دفعه إلى دراسة الرياضيات والهندسة الكهربائية، وتخصص في مجال كان في بداياته آنذاك: نظرية المعلومات.
كلود شانون
أضف إلى ذلك أن شانون لم يكتفِ بدراسة النظرية، بل عمل على تطبيقها عمليًا. ففي أطروحته للدكتوراه، استخدم الجبر البولياني لتحليل الدوائر الكهربائية، ما مهد الطريق لتطوير الحاسوب الرقمي. كما ابتكر نظرية الترميز، التي تشكل الأساس لنقل البيانات بكفاءة وأمان. وهي النظرية التي لا يزال يتم الاعتماد عليها في جميع أنظمة الاتصالات الحديثة. وفي حين أن الكثيرين يرون شانون كعالم نظري، إلا أنه كان أيضًا مخترعًا بارعًا. فقد ابتكر العديد من الأجهزة والألعاب التي تعتمد على مبادئ نظرية المعلومات.
من ناحية أخرى، فإن إسهامات شانون تتجاوز مجال الهندسة والرياضيات. فهو يعتبر أحد الآباء المؤسسين للذكاء الاصطناعي؛ حيث كان مهتمًا بمحاكاة العقل البشري باستخدام الآلات. كما أن أبحاثه في مجال علم التشفير كانت حاسمة في تطوير أنظمة الاتصال الآمنة. كذلك، فإن شانون كان شخصية غريبة الأطوار؛ إذ كان يعشق ركوب عجلة وحيد القرن، ويقضي ساعات طويلة في بناء الأجهزة الغريبة. وبينما كان عبقريًا في الرياضيات، إلا أنه كان يعاني من صعوبة في التعبير عن أفكاره شفهيًا. كما أنه كان شخصية متواضعة، على الرغم من إنجازاته العظيمة.

الحياة المبكرة والتعليم
وُلد كلود شانون في 30 أبريل عام 1916م، في مدينة بيتوسكي بولاية ميشيجان الأمريكية. منذ صغره، أظهر شغفًا بالآلات والألغاز، وهو ما مهد الطريق لمستقبل حافل بالإنجازات.
صقل العبقرية في الجامعة
في جامعة ميشيجان، أظهر شانون نبوغًا استثنائيًا، فحصل على درجة البكالوريوس في الهندسة الكهربائية والرياضيات في عام 1936م. ولم يكتفِ بذلك، بل واصل عطشًا للمعرفة، فالتحق بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) وحصل على درجة الماجستير في الهندسة الكهربائية في سن مبكرة.
وكانت أطروحته في هذا المستوى بمثابة نقطة تحول، فقد قدم فيها نظرية الدوائر التبديلية. والتي أرست الأساس النظري للحوسبة الرقمية. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل اعتُبرت هذه الأطروحة أهم أطروحة ماجستير في التاريخ. وحازت على جائزة ألفريد نوبل لعام 1939م. ما يؤكد أهميتها البالغة.
إسهامات حربيه حاسمة
وخلال الحرب العالمية الثانية، ساهم شانون بشكلٍ كبيرٍ في جهود الحرب الأمريكية. فقد عمل في مجال تحليل الشفرات؛ حيث قدم إسهامات أساسية في كسر الشفرات وتأمين الاتصالات. وكانت أبحاثه بمثابة نقطة تحول في عالم التشفير؛ إذ وضعت حجر الأساس للتشفير الحديث. ونتيجة لذلك، لُقب شانون بـ”الأب المؤسس للتشفير الحديث”.
وفي عام 1948م، قدم شانون ورقة بحثية أحدثت ثورة في مجال الاتصالات، وهي “النظرية الرياضية للاتصالات”. هذه الورقة، التي اعتبرها الكثيرون “مخطط للعصر الرقمي”، وضعت أسس نظرية المعلومات. ووصفتها مجلة “ساينتفك أمريكان” بأنها “المجلة العظمى لعصر المعلومات”. ولم تقتصر أهمية هذه النظرية على المجال النظري فقط، بل امتدت لتشمل تطبيقات عملية واسعة النطاق، مثل: اختراع القرص المضغوط وتطوير الإنترنت والهواتف المحمولة.
ميلاد الذكاء الاصطناعي
وفي مطلع الربع الثاني من عام 1950م، قدم كلود شانون للعالم اختراعًا ثوريًا غير مجرى التاريخ: فأرة مغناطيسية تعمل بالدوائر التناوبية. لم تكن هذه الفأرة مجرد لعبة، بل كانت خطوة جريئة نحو مستقبل الذكاء الاصطناعي. فبفضل تصميمها المبتكر، تمكنت الفأرة من التنقل بذكاء في متاهة مكونة من 25 مربعًا، بحثًا عن هدف محدد. هذا الإنجاز الرائع جعلها أول أداة تعلم من نوعها؛ حيث كانت قادرة على التكيف مع البيئة المحيطة بها واتخاذ القرارات المناسبة.
وفي نفس العام، نشر شانون ورقة بحثية رائدة حول شطرنج الحاسوب؛ إذ وضع الأسس النظرية لتمكين الحاسوب من لعب هذه اللعبة الذهنية المعقدة. هذه الورقة كانت بمثابة شرارة انطلقت منها شرارة ثورة الذكاء الاصطناعي. والتي نرى نتائجها اليوم في كل مكان حولنا.
تكريم عالم
حظي كلود شانون بتقدير كبير من قبل المجتمع العلمي، فحصل على العديد من الجوائز والأوسمة. كما منحت العديد من الجامعات والمعاهد له درجة الدكتوراه الفخرية تقديرًا لإسهاماته الجليلة في مجال العلوم والتكنولوجيا. وفي عام 2001، أقيمت احتفالات كبيرة لإحياء ذكرى هذا العبقري. وتم نصب تماثيل له في عدد من الجامعات المرموقة حول العالم، شاهدة على إرثه الخالد.
طبيعة فريدة وهوايات غريبة
لم يكن كلود شانون مجرد عالم عبقري، بل كان شخصًا يتمتع بشخصية فريدة. فإلى جانب اهتمامه بالآلات والعلوم، كان شانون مولعًا ببهلوانية تنطيط الكرات. بل إنه ابتكر معادلة رياضية لشرح هذه الهواية. والتي أطلق عليها اسم “معادلة التنطيط”. وكان منظر شانون وهو يتجول في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا على دراجة أحادية العجلة، ويداه مشغولتان بتنطيط الكرات، مشهدًا مألوفًا لمن حوله.
رحيل العبقري
في السنوات الأخيرة من حياته، عانى شانون من مرض الزهايمر الذي سرق منه ذاكرته تدريجيًا. ورغم ذلك، فإن إنجازاته ستظل محفورة في ذاكرة البشرية. وتوفي شانون عام 2001 عن عمر يناهز 84 عامًا، تاركًا وراءه إرثًا علميًا غنيًا، ساهم في تغيير العالم الذي نعيش فيه اليوم.

في نهاية المطاف، يمكن القول إن كلود شانون كان أكثر من مجرد عالم؛ فهو فنان ومخترع وفيلسوف. لقد ترك بصمة عميقة في تاريخ العلم والتكنولوجيا، ولا تزال إسهاماته تشكل أساسًا للعديد من التكنولوجيات الحديثة التي نستخدمها اليوم.
من خلال نظريته في المعلومات، التي أحدثت ثورة في عالم الاتصالات، إلى إسهاماته الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي، أثبت شانون أن العقل البشري قادر على تحقيق إنجازات مذهلة. ورغم رحيله، إلا أن أفكاره وأبحاثه ستظل مصدر إلهام للأجيال المقبلة من العلماء والمهندسين.