من بين القرارات التي تغيّر مجرى الحياة يبرز قرار جوزيف لاندس بترك العمل كعلامة فارقة على الشجاعة والإيمان المطلق بالقدرات الذاتية.
وفي مستهل مسيرته.بدأ مشواره المهني موظفًا طموحًا في شركة “مايكروسوفت”؛ حيث أمضى أكثر من عقدين من الزمن متنقلًا بين المناصب والمسؤوليات الرفيعة.
وخلال هذه الفترة الطويلة لم يكتفِ لاندس باكتساب الخبرة فحسب. بل عمل على صقل مهارات القيادة والإدارة على أعلى مستوى مؤسسي. ومع مرور السنوات نمت بداخله بهدوء رغبة عميقة في خوض مغامرة مهنية جديدة.
وفي نهاية المطاف غلب الشغف على الإغراءات المادية للاستقرار الوظيفي. فاختار أن يغادر بيئة الأمان ليكتب فصلًا جديدًا كليًا من مسيرته المهنية.
تأسيس Nerdio
وكما أكد لاندس بنفسه: “تركتُ وظيفة مستقرة في شركة مايكروسوفت عندما كنت في الخامسة والأربعين من عمري لأجرب شيئًا جديدًا”. وتابع قائلًا: “أنا سعيد لأنني خضت تلك المغامرة وغادرت الشركة بعلاقات طيبة”.
وتشير السيرة الذاتية لـ “لاندس” إلى أنه عمل في شركة مايكروسوفت لمدة 23 عامًا متتالية. تولّى خلالها العديد من المناصب القيادية الحساسة. وعندما حان وقت المغادرة في عام 2018 لتأسيس شركته الخاصة كان يشغل منصب المدير العام للتسويق والعمليات في فرع الشركة بالبرازيل.
الشراكة الإستراتيجية والتأسيس المشترك
أما عن لحظة التحوّل فالتقى لاندس بشريكه الحالي فاديم فلاديميرسكي خلال مؤتمر Microsoft Inspire. ومع مرور الوقت واجتماع الأهداف، أدرك الاثنان رغبتهما المشتركة في تأسيس شركة معًا. وعلى هذا الأساس، شاركا في تأسيس Nerdio في عام 2020.
وبعد بضعة أشهر انتقل لاندس للإقامة في أورلاندو للإشراف على عمليات الشركة الجديدة.
تتخصص شركة Nerdio في تقديم حلول تقنية متطورة لتبسيط خدمات الحوسبة السحابية. كما تعمل على أتمتة تكنولوجيا المعلومات لعملاء مايكروسوفت حول العالم.
وعلى الرغم من مغادرته للشركة الأم فإن العلاقة لم تنقطع؛ بل ظلت “مايكروسوفت” أقرب شركائهم. ويضيف لاندس: “أتعاون معهم يوميًا، ومن الممتع دائمًا أن أرى زملاءي القدامى كيف تطوروا وتولوا تحديات جديدة”.

الدروس المستخلصة
تجربة جوزيف لاندس في التحول من “مايكروسوفت” إلى ريادة الأعمال تعد نموذجًا ثريًا للدروس العملية. إذ أدرك أن النجاح في المغامرة المهنية الجديدة يرتكز على ثلاثة أسس:
أولًا: الحفاظ على الجسور المهنية
تعلم جوزيف لاندس دروسًا عملية منذ تركه للعمل كموظف، ويعد الحفاظ على العلاقات القوية أحد أهم هذه الدروس. ولذلك حرص على أن يغادر مايكروسوفت بعلاقات ممتازة، مؤكدًا أنه لم يحرق أي جسر خلفه.
وبالإضافة إلى ذلك حاول أن يترك العمل في حالة أفضل مما كان عليه عند وصوله، وغادر بابتسامة كبيرة وكلمات شكر صادقة.
وحتى يومنا هذا ما زال لاندس يستفيد من شبكة العلاقات التي بناها خلال سنوات عمله. وفي هذا الصدد يقول: “ليس الأمر أنني أفتقد مايكروسوفت بحد ذاتها. بل أفتقد الأشخاص الذين بنيت معهم علاقات قوية على مر السنين”. وهذا يفرض عليه مسؤولية مواصلة تنمية هذه العلاقات والحفاظ عليها.
ويشدد لاندس على أن بقاءك على تواصل مع الزملاء أمر مهم، لأنه قد تتاح فرصة مستقبلية للعمل معهم مجددًا.
وفيما يخص أدوات التواصل، يعد موقع LinkedIn أداة رائعة للبقاء على تواصل مهني فعّال. وللحفاظ على الجانب الشخصي للعلاقة يضيف لاندس: “عندما أزور أي مدينة أحاول لقاء زملائي القدامى على فنجان قهوة”.
ثانيًا: التحوط المالي بالتخطيط الدقيق
أما الدرس الثاني فيتعلق بالوعي الدقيق بالميزانية والتكاليف. فعندما ترك لاندس عمله أنشأ جدول بيانات بسيط سماه “هل أستطيع تحمّل التكلفة؟”. وضمن هذا الجدول كتب جميع مصاريفه اليومية والمستقبلية. من إيجار السكن والطعام وصولًا إلى مصاريف تعليم أولاده الجامعي وزيجاتهم المستقبلية.
هذا التخطيط كان مهمًا؛ لأن العمل في شركة يمنح راتبًا ومزايا ثابتة، على النقيض من تأسيس شركة جديدة تنطوي على مخاطرة كبيرة. وبسبب هذا التخطيط المسبق، الذي شمل مدخرات تكفيه لمدة 18 شهرًا، استطاع لاندس تخفيف الكثير من الضغوط عنه.
ثالثًا: القيمة المُضافة للمغامرة
أما الدرس الثالث فيؤكد أن المخاطرة بترك العمل تستحق التجربة. صحيح أن مغادرة مايكروسوفت في عمر 45 عامًا كانت خطوة محفوفة بالمخاطر، لا سيما أن المسؤوليات تتصاعد في هذه المرحلة العمرية؛ ما يجعل القرار أصعب.
لكن لاندس يطمئن أولئك الذين يشعرون بالخوف؛ إذ يقول: “إذا كنت تشعر بالخوف من ذلك، فاعلم أنك لست مضطرًا لمغادرة شركتك بالكامل. ويمكنك تجربة دور مختلف داخل الشركة الأم، فذلك يمنحك الشعور ذاته بالتجديد المطلوب”.
بناء الثقافة والرؤية الشخصية
كان الانتقال من “مايكروسوفت” إلى تأسيس “Nerdio” تجربة مرضية للغاية على الصعيد الشخصي. صحيح أن عمله في “مايكروسوفت” أتاح فرصًا عظيمة للنمو والتعاون. لكن بناء شيء من الصفر يستند إلى رؤيته ومعتقداته الشخصية منحه نوعًا مختلفًا من الرضا.
واليوم يشارك في رسم ملامح ثقافة شركته. ففي Nerdio يتم تشجيع المخاطرة، والتعلم من الفشل، والتطوير المستمر. ويعبر عن سعادته قائلًا: “من المرضي جدًا أن أرى كيف تطورت الشركة وكيف تجاوزنا ما تم إنجازه سابقًا”.
وقيادة فريق لا يخشى التجربة والتعلم من الأخطاء يجعله يشعر بأنهم “يتقدمون حقًا”. علاوة على ذلك قال لاندس: “أنا لا أبني مجرد شركة، بل أبني شيئًا أؤمن به أنا وشريكي فاديم، وهذا ما يجعل التجربة مشبعة بالمعنى”. وبالأخير سارت الأمور كما تمنى، وهو سعيد جدًا لأنه اتخذ تلك القفزة الجريئة.


