يرتبط التمويل متناهي الصغر بأبعاد ثلاثة: اقتصادي، وآخر ذي صلة بريادة الأعمال، والثالث هو ذاك المتصل بالمسؤولية الاجتماعية؛ إذ إن الهدف من هذا النمط التمويلي هو مساعدة الفقراء وغير القادرين في الاستفادة من الخدمات المالية التي تقدمها المؤسسات المصرفية والمانحون، وهنا يتجلى بعده الاقتصادي ومن ثم الاجتماعي.
فطالما تحسنت ظروف الناس الاقتصادية من المؤكد أن ذلك ينعكس إيجابًا على أوضاعهم الاجتماعية، لكن هذا التمويل لا يحض على التقاعس والكسل، وإنما هو -كما سنبين فيما بعد- ينادي بتعليم الناس الصيد بدلًا من منحهم سمكة.
هكذا نفهم أن ذلك التمويل أكثر من كونه تقديم أموال ومنح، وإنما هو متعلق بتغيير أنماط العيش وتعليم الناس المبادرة والاعتماد على الذات، ولكن مع توفير ما يلزم من خدمات ومساعدات لهم؛ كيما يتمكنوا من المضي قُدمًا.
لمحة تاريخية
مفهوم التمويل متناهي الصغر ليس وليد العصر الراهن؛ إذ من الممكن رصد عمليات تمويل على هذا النحو في القرن الثامن العشر. يُعزى أول ظهور له إلى نظام صندوق القروض الأيرلندي الذي قدمه جوناثان سويفت؛ بهدف تحسين ظروف المواطنين الأيرلنديين الفقراء. وبعدها أصبح مفهوم التمويل متناهي الصغر، في شكله الحديث، شائعًا على نطاق واسع مع بداية السبعينيات.
ومن السهل معرفة السبب الكامن وراء قِدم مفهوم التمويل المتناهي الصغر وعراقة هذه الممارسات طالما أدركنا أن الفقر مشكلة تؤرق العالم منذ زمن بعيد، والهدف من هذه الممارسة التمويلية هو مد يد العون، وإيصال الخدمات المالية لغير القادرين على الاقتراض أو الحصول على التمويل في شكله المألوف والمعتاد.
ويقدّر البنك الدولي أن أكثر من 500 مليون شخص استفادوا بشكل مباشر أو غير مباشر من العمليات المتعلقة بالتمويل متناهي الصغر.
كما تذهب مؤسسة التمويل الدولية (IFC)، وهي جزء من مجموعة البنك الدولي الأكبر، إلى أنه اعتبارًا من عام 2014 استفاد أكثر من 130 مليون شخص بشكل مباشر من العمليات المتعلقة بالتمويل متناهي الصغر. إلا أن هذه العمليات متاحة فقط لما يقارب 20% من ثلاثة مليارات شخص مؤهلين ليكونوا من بين فقراء العالم.
اقرأ أيضًا: صناديق الاستثمار.. الأهمية والمزايا
حدود التمويل متناهي الصغر
ثمة الكثير من التعريفات لمفهومه؛ إذ يعرّف، على سبيل المثال، بأنه نوع من الخدمات المصرفية المقدمة للأفراد أو المجموعات العاطلين عن العمل أو ذوي الدخل المنخفض الذين لن يكون لديهم وصول آخر إلى الخدمات المالية.
والهدف من التمويل الأصغر هو، في نهاية المطاف، إعطاء الفقراء فرصة لتحقيق الاكتفاء الذاتي. إنه باختصار توسيع/ تمديد فلسفة التمويل التقليدية وذلك من جهتين: الأولى من جهة الفئة المستهدفة ذاتها؛ فلم يعد الأمر مقتصرًا على تمويل بعض صغار رجال الأعمال أو الساعين إلى الاستثمار.
وهو ما يدفعنا إلى الحديث عن الجهة الثانية التي يتم من خلالها توسيع فلسفة التمويل؛ حيث إن مفهوم التمويل متناهي الصغر ينهض أساسًا على تقديم الدعم المالي لأشخاص لا تقتصر أهدافهم على الاستثمار فحسب؛ إذ لا يتعامل هذا المفهوم مع أنشطة كسب المال فقط، وإنما يقدم أيضًا المساعدة في شكل تكاليف المعيشة الأساسية أو النفقات الطبية أو التعليمية.
اقرأ أيضًا: التعامل مع الأرباح.. واجبات ما بعد اجتياز المرحلة الصعبة
أبعد من تقديم المال
لا يمكننا الحديث عن مفهوم التمويل متناهي الصغر من دون التطرق إلى الاقتصادي الرائد المؤسس في هذا المجال، وهو البروفيسور محمد يونس؛ والذي ساهم في نشر هذا المفهوم (مفهوم التمويل متناهي الصغر)؛ إذ يحاجج الرجل بأنه من خلال مقولة «الأعمال الاجتماعية» والنهوض بكل ما يقتضية مفهوم وفلسفة المسؤولية الاجتماعية يمكن فعلًا الوصول إلى عالم بلا فقراء.
تتمثل أطروحة «يونس» الأساسية إذًا في مقولة “الأعمال الاجتماعية Social Business”، ليس الأمر متعلقًا بالتبرع، ولا منح الدعم والمعونة لهذه الفئة المهمشة والفقيرة أو تلك؛ أي ليس بإعطاء الفقير سمكة وإنما تعليمه كيف يصطاد.
يقول البروفيسور محمد يونس:
إن مفتاح التخفيف من الفقر لا يكمن غالبًا في توليد “وظائف” -أي العمل بأجر لأصحاب العمل من الشركات الكبيرة- بل بالأحرى تشجيع العمل الحر لجميع الأفراد.
ومن ثم فإن هذا المفهوم منظورًا إليه من هذه الزاوية هو أكثر من مجرد مساعدة أو تخفيف من حدة الفقر أو المعاناة التي ترزح تحت نيرها هذه الفئة أو تلك، وإنما هو سعي حثيث إلى دفع الناس نحو العمل الحر وريادة الأعمال.
وبالتالي فإن التمويل المتناهي الصغر ليس اشتغالًا مكثفًا على تفعيل مفهوم وفلسفة المسؤولية الاجتماعية فحسب، ولكنه، في الآن ذاته، دفع إلى تعزيز ثقافة العمل الحر. فريادة الأعمال والعمل الحر، بشكل عام، يعملان على تحسين حياة الناس والدفع بهم قدمًا.
اقرأ أيضًا:
تغلب الشركات على الأزمات المالية.. 5 خطوات لعبور الهاوية
التمويل المستدام.. 6 معايير استثمارية جديدة
الأمان المالي للمشروع.. ماهيته وكيفية تحقيقه
استغلال الإقناع في التعامل مع الممولين.. كيف يتحقق ذلك؟
أبرز الأسئلة الشائعة عن التمويل.. مفاهيم مالية مُهمة