التفكير المفرط هو حالة يعاني منها الكثيرون في عالمنا سريع الخطى، لحسن الحظ، الثقافة اليابانية غنية بالحكمة والتقنيات التي يمكن أن تساعدنا على تهدئة عقولنا والتركيز على ما هو مهم.
كما يعد اليابانيون مثالًا رائعًا للثقافة الحديثة التي لا تزال تكرم بعض تقاليدهم الروحانية القديمة. وذلك في حين شهدت الثقافات الغربية قمع تقاليدها الروحانية القديمة من خلال التقاليد التوحيدية الصارمة والنظرة العالمية العلمية الحديثة التي تقمع الحالات المتغيرة وطرق المعرفة خارج الوعي اليقظة الطبيعي، لا يزال العديد من اليابانيين يعتنقون جذورهم.
وبالنظر إلى أن القلق والتفكير الزائد منتشران بشكل كبير في الثقافات الغربية الحديثة؛ فإن بعض هذه الأساليب اليابانية الواعية مفيدة بشكل خاص لإعادة صياغة قيمنا، والتركيز على ما هو أكثر أهمية والتخلي عن التفكير المرجعي الذاتي.
ووفقًا لبحث “تقنيات يابانية مدروسة للتوقف عن التفكير الزائد” المنشور على “Times of India” بواسطة Kyle Pearce. نستعرض 8 طرق يابانية فعالة للتخلص من التفكير المفرط:
8 طرق يابانية لعلاج التفكير المفرط
يواجه الكثيرون صعوبة في إيقاف دوامة الأفكار المتسارعة. ولحسن الحظ، الثقافة اليابانية العريقة تقدم لنا مجموعة متنوعة من التقنيات التي تساعد على تهدئة العقل وتقليل القلق. إليك 8 طرق يابانية فعالة لعلاج التفكير المفرط:
1- احتضان فلسفة وبي-سابي (Wabi-Sabi)
وَابي-سابي هي فلسفة يابانية عميقة الجذور تتجاوز كونها مجرد مفهوم جمالي؛ فهي نظرة شاملة للحياة تحتفي بالجمال في عدم الكمال، وتقدر الطبيعة العابرة لكل الأشياء.
كما تُرى هذه الفلسفة في كل مكان في الثقافة اليابانية. من فن الحدائق إلى تصميم المساكن، وحتى في شاي الماتشا التقليدي. وكذلك يمكن تقديم أمثلة أكثر تحديدًا لـ “عدم الكمال” في سياق وبي-سابي، مثل الشقوق في الخزف، أو أوراق الشجر المتساقطة، أو حتى آثار الزمن على الأشياء.
وبي-سابي والتغلب على التفكير المفرط
وفقًا للبحث اليباني سالفة الذكر، تدفعنا فلسفة الـ “وابي-سابي” إلى رؤية الجمال في الشقوق. حيث هذه العيوب الصغيرة لا تشوه الجمال بل تضيف إليه عمقًا وخصائص فريدة. وبالمثل، تدعونا هذه الفلسفة إلى قبول عيوبنا البشرية، وعدم السعي وراء الكمال الذي لا يمكن تحقيقه.
كما تُقدر الـ “وابي-سابي” الطبيعة العابرة لكل الأشياء، من ازدهار الزهرة وحتى ذبولها. فهي تذكرنا بأن الحياة نفسها رحلة، وأن الجمال يكمن في كل مرحلة من هذه الرحلة. سواء كانت بداية أو نهاية.
وتتجسد فلسفة الـ “وابي-سابي” بوضوح في فن الحدائق اليابانية، حيث يتم ترك الحجارة والمسارات لتتأثر بالعوامل الطبيعية؛ ما يخلق مناظر طبيعية فريدة تتغير باستمرار. كما أن طقوس شرب الشاي التقليدية في اليابان هي تعبير عن هذه الفلسفة، إذ يتم التركيز على كل خطوة من خطوات إعداد الشاي وتقديمه، مما يخلق تجربة حسية عميقة.
2- ممارسة التأمل الزين (Zazen Meditation)
التأمل الزين هو تقليد ياباني عريق يهدف إلى تدريب العقل على تحقيق حالة من الهدوء والتركيز العميق. كما يعتمد هذا النوع من التأمل على الجلوس بهدوء في وضعية معينة. مع التركيز على التنفس والوعي بالجسد والعقل.
ويهدف الزين إلى تحرير العقل من الأفكار المتسارعة والقلق، مما يسمح للشخص بالوصول إلى حالة من الهدوء والسلام الداخلي.
التأمل و التفكير الزائد
يعاني الكثير من الناس في عصرنا الحالي من مشكلة التفكير المفرط. حيث تدور الأفكار في العقل بشكل مستمر مما يسبب التوتر والقلق. لذلك يعتبر التأمل الزين أداة فعالة لمواجهة هذه المشكلة.
كما يعتبر الزين بمثابة صالة ألعاب رياضية للعقل، حيث يتم تدريب العقل على التركيز على شيء واحد، مثل التنفس، بشكل مكثف. هذا التدريب المستمر يساعد على تقليل التشتت الذهني؛ ما يجعل العقل أكثر حدة وتركيزًا. تخيل أنك قادر على التركيز على مهمة واحدة دون أن تتشتت أفكارك، فهذا هو الهدف الذي يسعى الزين لتحقيقه.
3- تبني فلسفة كايزن (Kaizen)
كايزن هي فلسفة يابانية عميقة الجذور تعني “التحسين المستمر”. كما تتجاوز كايزن كونها مجرد أداة لتحسين الإنتاجية في الشركات؛ فهي فلسفة حياة تشجع على التطوير التدريجي والمنهجي في جميع جوانب الحياة. بدلاً من السعي وراء تغييرات جذرية، تركز كايزن على إجراء تحسينات صغيرة ومتكررة على مدار الزمن.
كايزن في التغلب على التفكير المفرط
عندما نركز على أهداف كبيرة وطموحة، غالبًا ما نشعر بالضغط والقلق. وذلك مما يؤدي إلى التفكير المفرط. هنا يأتي دور كايزن لتقديم حل مختلف. من خلال تقسيم الأهداف الكبيرة إلى مهام صغيرة قابلة للتنفيذ، لذلك يمكننا تحقيق تقدم تدريجي دون الشعور بالضغط الزائد.
4- العيش وفقًا لإيكيجاي (Ikigai)
الإيكيجاي هو مفهوم ياباني قديم يشير إلى “سبب وجودك”. بعبارة أخرى، هو ذلك الشيء الذي يجعلك تستيقظ كل صباح متحمسًا، وهو تقاطع بين ما تحب، وما تجيد، وما يحتاجه العالم. وما يمكنك أن تحصل عليه مقابل ذلك. الإيكيجاي ليس مجرد وظيفة أو هواية، بل هو غاية أعمق تعطي للحياة معنى وهدفًا.
كما أنه من الطبيعي أنه عندما يكون لدينا هدف واضح في الحياة، فإننا نكون أكثر تركيزًا وإنتاجية. لذلك الإيكيجاي يعمل كبوصلة توجهنا نحو ما هو مهم حقًا. لأنه يقلل من التشتت الذهني والتفكير المفرط في الأمور التافهة.
5- التبسيط باستخدام دانشاري (Danshari)
دانشاري هي فلسفة يابانية قديمة تعني حرفياً “البساطة”. تركز هذه الفلسفة على التخلص من الأشياء غير الضرورية والاحتفاظ فقط بما هو أساسي وذو قيمة. من خلال تبني فلسفة الدانشاري.
كما نسعى إلى تحقيق حياة أكثر بساطة وترتيبًا، حيث تحررنا من العبء المادي والنفسي الذي يسببه تراكم الأشياء.
الدانشاري والتغلب على التفكير المفرط
عندما نحيط أنفسنا بأشياء كثيرة، فإن ذلك يخلق فوضى مادية تؤثر سلبًا على صحتنا العقلية. كما تسبب الفوضى المحيطة بنا التشتت والقلق، مما يزيد من مستوى التوتر والتفكير المفرط.
ولكن عندما نتخلص من الأشياء غير الضرورية، فإننا نقلل من الضغط الذي نحمله على أنفسنا. فبدلاً من القلق بشأن تنظيم الأشياء وتنظيفها، يمكننا التركيز على الأمور المهمة في حياتنا. حيث يعطي التخلص من الفوضى شعوراً بالتحرر والانتعاش، مما يحسن المزاج ويقلل من الشعور بالإرهاق.
6- الانغماس في الغابة (Shinrin-Yoku)
الانغماس في الغابة، أو “شينرين يوكو” كما يُعرف باللغة اليابانية، هو مفهوم يركز على الاستفادة من الطبيعة لتحسين الصحة النفسية والجسدية. كما أن هذه الممارسة تشجع الناس على قضاء الوقت في الغابات أو الحدائق. علاوة على الاستمتاع بجمال الطبيعة، والاستنشاق هواءها النقي، والاستماع إلى أصواتها الهادئة.
حيث أنه في عالمنا الصاخب والمشغول، غالبًا ما نجد أنفسنا غارقين في أفكارنا ومشاعر القلق والتوتر. كما أن الانغماس في الغابة يوفر لنا فرصة للهروب من هذا الضجيج والتركيز على اللحظة الحاضرة.
7- اتباع قاعدة الخمسة (Gomakushiki)
قاعدة الخمسة هي أداة بسيطة ولكنها فعالة، مستوحاة من الحكمة اليابانية. تهدف إلى تبسيط حياتنا وتحسين قدرتنا على التركيز. كما تتلخص هذه القاعدة في تحديد خمس أولويات رئيسية في أي مجال من مجالات حياتنا. سواء كان العمل، الدراسة، العلاقات الشخصية، أو حتى تنظيم المنزل.
حيث أنه في عالمنا سريع الخطى، غالباً ما نشعر بالضغط بسبب كثرة الخيارات والقرارات التي نواجهها يوميًا. فهذا الكم الهائل من الخيارات يؤدي إلى شلل القرار. مما يزيد من مستوى التوتر والقلق والتفكير المفرط. هنا يأتي دور قاعدة الخمسة لتبسيط حياتنا وتقليل العبء العقلي.
كيف يمكن تطبيق قاعدة الخمسة في حياتنا اليومية؟
في العمل: حدد خمس مهام رئيسية تسعى لإنجازها يوميًا. هذه المهام الخمس هي أهم ما يجب عليك التركيز عليه خلال يوم عملك، وستساعدك على تحقيق أهدافك بشكل أسرع وأكثر كفاءة.
بينما في المنزل: حدد خمس مناطق في منزلك تحتاج إلى اهتمام خاص، سواء كانت تنظيفًا عميقًا أو إعادة ترتيب. التركيز على خمس مناطق فقط سيساعدك على الحفاظ على منزلك مرتبًا ومنظمًا دون الشعور بالإرهاق.
في العلاقات الشخصية: حدد خمسة أشخاص ترغب في التواصل معهم بشكل منتظم. سواء كانوا أفراد عائلتك، أصدقائك المقربين، أو زملاء عملك، فإن تخصيص وقت منتظم للتواصل معهم سيعزز روابطك الاجتماعية ويجعلك تشعر بالسعادة والرضا.
تطوير الذات: حدد خمس مهارات جديدة ترغب في تعلمها. سواء كنت ترغب في تعلم لغة جديدة، أو ممارسة هواية جديدة، أو تطوير مهاراتك المهنية، فإن تحديد خمس مهارات محددة سيساعدك على تحقيق أهدافك الشخصية والمهنية.
8- ممارسة هارا هاتشي بو (Hara Hachi Bu)
وفقًا لبحث “تقنيات يابانية مدروسة للتوقف عن التفكير الزائد”، يتم تعريف “هارا هاتشي بو” أنها فلسفة يابانية قديمة تتعلق بالتغذية والوعي بالجسم. كما تعني حرفيًا “ثمانية أجزاء من عشرة”.
وهي تشجع على تناول الطعام حتى تشعر بالشبع بنسبة 80% فقط، بدلاً من الأكل حتى تشعر بالشبع التام. هذه الفلسفة ليست مجرد نظام غذائي، بل هي نمط حياة يركز على الاستماع إلى إشارات الجوع والشبع في الجسم.
كما أنها تتغلب على الافراط في التفكير، حيث أنه عندما نأكل أكثر مما يحتاجه جسدنا، فإننا نحمل أجسامنا عبئًا إضافيًا، مما يؤثر سلبًا على صحتنا النفسية والجسدية. الإفراط في الأكل يمكن أن يؤدي إلى الشعور بالخمول، والانتفاخ، وحتى الاكتئاب. ومن ناحية أخرى، فإن الانتباه إلى إشارات الجوع والشبع يساعدنا على التحكم في شهيتنا وتجنب الإفراط في الأكل.
وختامًا لابد أن نذكر أن هذه الطرق اليابانية ليست مجرد تقنيات؛ بل هي أسلوب حياة. إذ أنه من خلال تبني هذه الطرق، يمكنك تدريب عقلك على التركيز والهدوء والتغلب على التفكير المفرط.