تجسّد مسيرة عثمان ديمبلي قصة تحول مذهلة، فمن نجمٍ واعدٍ كان يصارع شبح الإصابات إلى قائدٍ ملهمٍ ونجمٍ مؤثّر ترك بصمته على خارطة كرة القدم العالمية.
في حين أن تلك الرحلة لم تكن مجرد انتقال بين الأندية، بل كانت انعطافًا حقيقيًا في مسار لاعبٍ أعاد اكتشاف ذاته. ليثبت أن الإصرار وحده هو مفتاح التغلب على التحديات.
بينما لم يكتفِ ديمبلي بالعودة إلى الواجهة، بل صعد إلى القمة متوجًا جهوده المضنية بجائزة الكرة الذهبية لعام 2025. مسطرًا بذلك فصلًا جديدًا في كتاب إنجازات الرياضة الفرنسية.
كما أن هذه القصة ليست مجرد حكاية نجاح فردي، بل هي درس في الصبر والمثابرة. فلم يكن صعوده سهلًا بل كان محفوفًا بالمخاطر والإحباطات التي كادت أن تطيح بمسيرته المهنية.
ومر “ديمبلي” بفترة عصيبة شهدت تراجعًا كبيرًا في مستواه بسبب لعنة الإصابات المتكررة، الأمر الذي جعله محط انتقاد جماهيري ووسائل إعلامية لاذعة. ومع ذلك اختار أن يحوّل تلك المحنة إلى منحة، مستلهمًا من كل سقوط قوةً جديدةً للنهوض. ليقود في النهاية فريقه باريس سان جيرمان نحو تحقيق إنجازاتٍ تاريخية غير مسبوقة.
الحياة المبكرة
وُلد عثمان ديمبلي يوم الخامس عشر من شهر مايو لعام 1997. في منطقة فيرنون الفرنسية التابعة لإقليم أور. وتحمل أصوله مزيجًا ثقافيًا فريدًا، فوالده ينحدر من مالي. بينما والدته فرنسية من أصل موريتاني وسنغالي.
فيما شكلت هذه الخلفية المتنوعة جزءًا من هويته التي رافقته منذ طفولته؛ حيث بدأ شغفه بكرة القدم يتنامى في سن مبكرة. وكانت شوارع فيرنون أول ملعب له، وهناك بدأت ملامح موهبته الفذة تظهر للعيان. لتلفت أنظار الكشّافة الذين كانوا يترقبون ظهور النجوم الصغار.
في حين اكتشفت مواهب ديمبلي منذ الصغر، ليصبح اسمًا متداولًا في الأوساط الكروية المحلية. لكنه لم يتألق بمجرد مهارته الفردية؛ بل بمرونة أدائه وقدرته على اللعب في مختلف المراكز الهجومية.
كذلك ساهمت هذه السمات في جعله هدفًا لأكاديميات الأندية الكبرى التي سعت لضمه مبكرًا. وكان انتقاله إلى نادي رين خطوةً أولى وحاسمة في مسيرته الاحترافية؛ حيث أظهر إمكانات هائلة جعلته يتربع على عرش النيل من فرص اللعب، ومن هناك بدأت رحلة صعوده نحو العالمية.
المسيرة الكروية
بدأ ديمبلي مسيرته الاحترافية من بوابة نادي رين الفرنسي؛ إذ لم يلبث أن لفت الأنظار بسرعة فائقة بفضل سرعته الخارقة ومهاراته الفردية التي يصعب مجاراتها.
وكان وجوده في الملعب بمثابة عاصفة هجومية لا تهدأ؛ ما جعله واحدًا من أبرز المواهب الشابة في القارة الأوروبية. هذا التألق اللافت استقطب اهتمام نادي بوروسيا دورتموند الألماني، الذي نجح في ضمه عام 2016، ليبدأ معه فصلًا جديدًا من التوهج الكروي.
وفي دورتموند واصل ديمبلي صولاته وجولاته، مقدمًا أداءً باهرًا أثار إعجاب الجميع، الأمر الذي دفع نادي برشلونة الإسباني إلى التعاقد معه في العام التالي مقابل مبلغ ضخم بلغ 105 ملايين يورو. ليصبح ثالث أغلى لاعب كرة قدم في التاريخ بجانب مواطنه بول بوغبا.
وكان هذا الانتقال بمثابة حلم تحقق، لكنه سرعان ما تحول إلى كابوس؛ حيث تعرّض لسلسلة من الإصابات الخطيرة التي أثرت سلبًا في مستواه. وأوقعته تحت ضغوط نفسية وذهنية هائلة؛ ما جعله منبوذًا في نظر الجماهير والإعلام الكتالوني.
الرحيل عن برشلونة
في صيف عام 2023 اختار ديمبلي أن يترك برشلونة ويتجه نحو وجهة جديدة في باريس سان جيرمان، في صفقة بلغت قيمتها 50 مليون يورو. كان هذا الانتقال بمثابة فرصة أخيرة لإعادة إحياء مسيرته.
وهناك بدأ اللاعب الفرنسي في كتابة سيناريو عودته المظفرة. وشهد موسم 2024-2025 ذروة أدائه؛ إذ قدّم أفضل مستوى له على الإطلاق، وسجل 33 هدفًا وصنع 13 تمريرة حاسمة خلال 49 مباراة في مختلف المسابقات. مساهمًا بفاعلية في قيادة الفريق الباريسي لتحقيق إنجازات لم تتحقق من قبل.
كان لدور المدرب لويس إنريكي الأثر البالغ في هذا التحول؛ حيث منحه الثقة الكاملة والحرية في اتخاذ القرارات داخل الملعب. بالإضافة إلى تغيير مركزه ليصبح مهاجمًا صريحًا.
كما لم يقتصر تأثير ديمبلي على الجانب الهجومي، بل امتد ليجعله قائدًا حقيقيًا داخل غرفة الملابس. بفضل جديته في التدريبات وروحه الجماعية العالية التي أصبحت مثالًا يحتذى به بين زملائه.
وعلى المستوى الدولي كانت مسيرة ديمبلي مع المنتخب الفرنسي حافلةً بالنجاحات؛ حيث مثّل مختلف الفئات العمرية للمنتخب. بدءًا من منتخبات الشباب التي شارك معها في أكثر من 20 مباراة وسجل خلالها خمسة أهداف.
وكانت أول مباراة له مع المنتخب الأول في عام 2016، ليدخل بذلك ضمن قائمة النخبة من اللاعبين الفرنسيين الذين يمثلون بلادهم على الساحة الدولية.
الإنجازات والتكريم
شهد موسم 2024-2025 ذروة تألق ديمبلي؛ إذ قاد فريقه باريس سان جيرمان لتحقيق إنجازات استثنائية. وتوّج النادي الباريسي بلقب دوري أبطال أوروبا لأول مرة في تاريخه بفضل أداء ديمبلي الساحر الذي سجل 8 أهداف وصنع 6 تمريرات حاسمة خلال 15 مباراة في البطولة. معادلًا بذلك رقم مواطنه كيليان مبابي كأكثر لاعبي النادي تسجيلًا في موسم واحد في البطولة الأوروبية.
تلك المساهمات لم تقتصر على دوري الأبطال فقط، بل امتدت لتشمل البطولات المحلية؛ حيث ساهم بـ29 مساهمة تهديفية في الدوري الفرنسي. ليقود الفريق لتحقيق الثلاثية المحلية التاريخية.
ولم يكن تتويج ديمبلي بالجوائز الفردية مجرد صدفة، بل كان نتيجةً طبيعيةً لموسم استثنائي. فاللاعب الفرنسي حصد جوائز مرموقة، من بينها أفضل لاعب في دوري أبطال أوروبا وأفضل لاعب في الدوري الفرنسي بعد كيليان مبابي.
هذه الإنجازات جعلت منه واحدًا من أبرز اللاعبين في القارة العجوز، ومحط أنظار العالم بأسره.
التتويج بالكرة الذهبية
وفي إنجاز تاريخي تُوّج عثمان ديمبلي بجائزة الكرة الذهبية لعام 2025، والتي تمنح لأفضل لاعب في العالم من قبل مجلة “فرانس فوتبول” الفرنسية.
ولم يكن هذا الفوز مجرد تكريمٍ فردي، بل كان تتويجًا لمسيرة كفاح طويلة. وأصبح ديمبلي أول لاعب من مواليد القرن الحادي والعشرين يفوز بالكرة الذهبية في أول ترشيح له. كما أنه سادس فرنسي يحظى بهذا الشرف التاريخي.
كان سباق الفوز بالكرة الذهبية محتدمًا؛ حيث تفوق ديمبلي على نخبة من النجوم الكبار مثل: محمد صلاح، ولامين يامال، وفيتينيا، ورافينيا. وحسم الجائزة بجدارة واستحقاق بعد موسم فريد من نوعه، عكس تقدّمه الهائل على المستويين الفردي والجماعي.
هذه الجائزة ليست نهاية المطاف، بل هي بداية فصل جديد في مسيرة نجمٍ أثبت أن الإيمان بالذات هو القوة الحقيقية التي تصنع الأساطير.