في نهاية عام 2021 نشر السير رونالد كوهين؛ مؤسس شركة Apax Partners لرأس المال الجريء، والتي تدير استثمارات ب 80 مليار دولار، كتابًا بعنوان “الآثر”.
وقد ذكر فيه أنه قرر ترك شركته بعد أكثر من ثلاثة عقود؛ ليتفرغ لمهمة أكثر أهمية؛ وهي “إعادة صياغة رأسمالية أكثر مراعاةً للبيئة والمجتمع”؛ لدعم الاستثمار المؤثر وإعادة توجيه الأموال نحو الشركات التي تُحدث آثارًا إيجابية على المجتمع. ما أحدث حينها بلبلة واسعة.
النموذج السعودي للاقتصاد الاجتماعي
تذكرت ذلك، وأنا أستمع إلى الدكتور يوسف الحزيم؛ الأمين العام لمؤسسة الأميرة العنود الخيري. في ملتقى الاقتصاد الاجتماعي الرابع بالرياض. وهو يتحدث عن ضرورة استكمال بلورة “النموذج السعودي للاقتصاد الاجتماعي. وضرورة الاستثمار كثيرًا في هذا الجانب.
والواقع، أنَّ هناك تجربة سعودية رائدة برزت عناصرها في السنوات الأخيرة. مستمدة من تاريخ طويل في العطاء والعمل الخيري؛ فالاقتصاد الاجتماعي لا يقترح نظامًا اقتصاديًا فحسب. بل اجتماعيًا سياسيًا وثقافيًا أيضًا. ويضع عمليات الحفاظ على الحياة في بؤرة النشاط الاجتماعي والاقتصادي.
كما يضع الناس والمجتمعات والبيئة فوق تراكم رأس المال. ويخفف من علاقة رأس المال بعدم المساواة والإقصاء؛ من خلال التعاون، والمعاملة بالمثل، والإدارة الذاتية، والتضامن مع الآخر.
نظام الشركات الجديد
وبالفعل، حرصت المملكة على تأسيس منظومة متماسكة للاقتصاد الاجتماعي. بإصدار نظام الشركات الجديد الذي يشمل أنواعًا جديدة من الشركات. ومنها شركات يمكن تأسيسها ليس بغرض تحقيق أرباح، تسمى بالشركات غير الربحية.
ولا شك في أنَّ إدراج هذا المسمى في نظام الشركات. هو محاولة لاحتواء القطاع غير الربحي ومساعدته في أن يكون له دور فاعل في الاقتصاد الوطني.
وقد تخطَّى عدد الشركات غير الربحية 62 ألف شركة، بمعــدل نمــو ســنوي بلــغ 57 %؛ بفضــل ارتفــاع عــدد الشــركات غيــر الربحيــة والأوقاف والجمعيــات وأنديــة الهــواة. إلى 6348 في مايو من هذا العام. تســهم بنحو 3.3 % مــن الناتــج المحلــي الإجمالي.
منصة إحسان
كما يتوقــع أن يحقــق هذا القطــاع مســتهدف رؤيــة الســعودية 2030 قبــل موعــده بالوصــول إلى 5 % مــن الناتــج المحلــي الإجمالي. وذلك في ظل وجود هيئة وطنية متخصصة للأوقاف. وإطلاق مركز وطني لدعم المنظمات غير الربحية. علاوة على منصات التمويل التشاركي والتبرع والتي توظف التقنيات الحديثة؛ مثل منصة “إحسان”.
ومع التطور الكبير الذي شهدته منظومة ريادة الأعمال بمختلف أنواعها ودعم المنشآت الصغيرة والمتناهية الصغر- وهي ذراع الابتكار الأول في الاقتصاد- تأخذ عملية تطوير الاقتصاد الاجتماعي أبعادًا مختلفة. مدفوعة بالتطور الكبير في بيئة الأعمال والمبادرات الكبيرة التي أُطلِقت، خاصة مبادرة السعودية الخضراء التي تواصل العمل منذ انطلاقها في عام 2021؛ ما يعزز جهود حماية البيئة ويُسرِّع رحلة انتقال الطاقة وبرامج الاستدامة. لتحقيق أهدافها الشاملة في مجال تعويض وتقليل الانبعاثات الكربونية. وزيادة أعمال التشجير، واستصلاح الأراضي، وحماية المناطق البرية والبحرية في المملكة.
استكمال منظومة ريادة الأعمال
إنَّ استكمال منظومة ريادة الأعمال- لتشمل دعم الاقتصاد الاجتماعي والاقتصاد الأخضر والأزرق والدائري- تحتاج إلى أنواع متطورة من التمويل ومؤسسات رأس المال التي تتحمل المخاطر وتفتح الباب أمام الشركات التقنية الناشئة في هذه المجالات.
ويمثل رأس المال الجريء أحد أشكال الاستثمار القائم على تملّك أسهم ملكية في شركات ناشئة خلال مراحلها الأولية، تتمتع بإمكانات نموٍّ عالية، وتعتمد على الاستثمار الجريء كمصدر تمويلٍ رئيس؛ إذ لا يقتصر دوره على توفير رأس المال فحسب، بل يفتح أيضًا آفاقًا متعددة تُسهم في دعم نجاحها ونموها.
وإلى جانب التمويل، تقدّم شركات الاستثمار الجريء أشكالًا متنوّعة من الدعم. مثل الإرشاد في الجوانب الريادية والإدارية والتسويقية، سواء من المستثمرين أو الاستشاريين. إضافةً إلى تسهيل عقد شراكات استراتيجية مع شركات ناشئة أخرى أو شركات كبرى، وربط المؤسسين بمستثمرين استراتيجيين قد يشاركون في جولات تمويلية لاحقة.
كذلك يختلف رأس المال الجريء الاجتماعي عن نظيره التقليدي. إذ يتجه أساسًا نحو استثمارات في مجالات تحقق “الأثر” من التمويل؛ أي ينقل عملية التمويل من مجرد تحقيق الأرباح إلى تحقيق أثر تنموي فعلي.
الأثر من التمويل
كما وتضعنا مفاهيم استثمار “الأثر من التمويل” أمام سؤال جوهري: هل أحدثت الأموال فرقًا في حياة الناس وفي المجتمعات؟ وهل المستثمرون على وعي بمدى الأثر الحقيقي لاستثماراتهم. فغياب الأثر هو أكبر تهديد لمستقبل الاستثمار، خاصة في التقنيات الناشئة في المنطقة. فهي- بجانب التأكد من تحقيق عوائد مناسبة- تنقل عقلية المستثمرين من التركيز على قياس النجاح بالدولارات إلى قياسه بالأرواح التي جرى إنقاذها وتحسين حياتها وحجم التحديات الاجتماعية والبيئية التي تم حلها.
كما تنقل التركيز في منظومات الاستثمار بشكل عام، من قياس نجاح بيئة الاستثمار- بناء على حجم الأموال المستثمرة- إلى قياس نتائج وأثر الاستثمارات على التنمية في المجتمع.
السعودية في مقدمة الشرق الأوسط
وللعام الثاني على التوالي، واصلت السعودية في 2024. قيادة دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من حيث قيمة الاستثمار الجريء التقليدي؛ إذ استحوذت على 40 % من إجمالي الاستثمار الجريء. تلتها الإمارات ﺑ613 مليون دولار.
كذلك وفقًا لبيانات منصة “ماجنيت” المتخصصة في بيانات الشركات الناشئة. بلغت قيمة الاستثمار الجريء في السعودية نحو 750 مليون دولار خلال العام. وسجلت صفقاتها أرقامًا قياسية، لتبلغ 178 صفقة. مرتفعة بنسبة 16 % على أساس سنوي، مدفوعةً بزيادة نشاط المرحلة المبكرة.
الاقتصاد الاجتماعي
كما أن كل هذا التطور يفيد الاقتصاد الاجتماعي في المملكة، ويسرع الانتقال نحو الأثر. والعمل على تشجيع شركات رأس المال الجريء التقليدية بإضافة “الأثر” إلى استثماراتها. وكذلك مساندة تأسيس مؤسسات جديدة أصيلة لتمويل الشركات الناشئة التي تسعى لتحقيق الأثر.
إنَّ أُطر وأدوات الاستثمار في الأثر ضرورية لاستكمال منظومة الاقتصاد الاجتماعي، والتي تشمل أربعة محاور:
من استكمال تطوير الإطار التنظيمي والتشريعي لتنظيم وحوكمة الاقتصاد الاجتماعي. إلى تطوير العرض من رأس المال الجريء الاجتماعي وتعزيز قدرة متلقي رأس المال على التطور والنمو. إلى إعادة هندسة معايير السوق لدمج مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي في المشتريات الحكومية والشراكات المنتجة.
وأخيرًا الاهتمام بقياس الأثر الاجتماعي للاستثمار. وكذلك تزويد صانعي القرار في مؤسسات التمويل والمجتمع بأفضل الممارسات والمعرفة المطلوبة لضمان تحقيق الأثر.