تحت ضوء التجارب القاسية وبعزم لا يلين شقّ تود غريفز طريقه نحو القمة متحديًا كل العوائق التي حاولت أن تطفئ شعلته الأولى.
ومنذ أيام شبابه الأولى لم تفتح أمامه الأبواب بسهولة، بل كان عليه أن يطرقها بإصرار غير معهود. ويواجه نظرات الشك والاستهزاء التي كانت تلاحق فكرته البسيطة عن مطعمٍ يقدّم أصابع الدجاج فقط. وهو مفهوم لم يكن مألوفًا في حينه.
تود غريفز
بينما مع كل رفضٍ يسمعه من بنك أو مستثمر كانت رغبته في النجاح تشتد. وكأن كل “لا” تضيف إلى طاقته شرارة جديدة تدفعه إلى المضي قدمًا. تتابعت الأيام وتحوّل الحلم إلى رحلةٍ محفوفة بالمشقة؛ حيث عمل عاملًا للحام في مصافي النفط، ثم صيادًا في مياه ألاسكا الجليدية، يصارع التعب والخطر كي يجمع ما يكفي من المال ليشعل شرارة مشروعه.
في حين لم تكن تلك التجارب المهنية مجرد مراحل عابرة، بل كانت مدارس حقيقية للحياة صقلت شخصيته القيادية. وغرست فيه يقينًا بأن الطريق إلى النجاح لا يعبّد إلا بالعرق والتحدي والمغامرة المحسوبة.
وهكذا، ومن بين الرماد، نهض غريفز ليحوّل فكرته المرفوضة إلى إمبراطورية مطاعم تمتد اليوم عبر القارات. شاهدة على أن الإيمان الراسخ بالحلم أعظم من كل القيود المادية أو الأكاديمية.
النشأة في لويزيانا وروح المبادرة المبكرة
ولد تود غريفز يوم 20 فبراير 1972م، ونشأ بمدينة باتون روج بولاية لويزيانا الأمريكية. وهناك التحق بمدرسة Episcopal High School؛ حيث أظهر تفوقًا بالأنشطة المتعددة.
فيما مارس العديد من الرياضات، منها ألعاب القوى، وكان قائدًا لفريق كرة القدم. كما شارك بأنشطة المسرح والدراما إلى جانب دراسته بصفوف الشرف.
ومنذ صغره أظهر غريفز روح المبادرة والاستقلالية المالية؛ إذ كان دائم البحث عن طرق مبتكرة لكسب المال. لذلك خاض تجارب متعددة بدأت ببيع عصير الليمون، مرورًا بطباعة أرقام الأرصفة، وصولًا إلى قصّ الأعشاب للمنازل.
كذلك كان يستلهم أفكاره من الأعمال التي ينفذها أقرانه، ويؤمن دومًا بأنه قادر على تنفيذها بطريقة أكثر كفاءة وتنظيمًا.
التعليم الأكاديمي وتحول الأحلام المهنية
بعد تخرجه من المدرسة الثانوية،د التحق غريفز بجامعة جورجيا، ودرس الاتصالات مع تخصص فرعي في إدارة الأعمال. وكان هدفه الأساسي حينها السعي وراء حلمه في الكتابة للتلفزيون والسينما، لكن هذا المسار سرعان ما تغير بفعل الخبرة.
في حين أيقظ عمله بالمطاعم والحانات خلال سنوات دراسته الجامعية شغفًا عميقًا لديه تجاه الطعام وصناعة الضيافة. هذا الشغف المتنامي قاده لتحويل حلمه نحو هدف جديد: تأسيس مطعم يقدم أصابع الدجاج فقط بمسقط رأسه باتون روج، وبالقرب من جامعة لويزيانا الحكومية.
خطة العمل والرفض الأكاديمي الحاسم
مباشرة إثر تخرجه في جامعة جورجيا عام 1995م، عاد غريفز إلى مدينته عاقدًا العزم على تحقيق حلمه الفريد. ومع تزايد شعبية الدجاج منزوع العظم حينها قرر أن يركّز على منتج واحد فقط ويقدمه بأفضل جودة ممكنة. لذلك بحث عن شريك، فاتصل بصديقه منذ الطفولة كريغ سيلفي.
وخلال الأشهر التالية انكبّ غريفز على تعلم أساسيات إدارة الأعمال عبر قراءة كتب متخصصة، وحضور دورات بمركز تطوير الأعمال الصغيرة، والتشاور مع رجال أعمال مختلفين.
وبالتوازي تعاون مع سيلفي، الذي كان طالبًا بجامعة LSU، على وضع خطة عمل لمشروعهما المشترك بعنوان “Folly’s Fingers of LSU”.
لكنها حصلت على أدنى درجة بالصف؛ إذ رأى الأستاذ أن فكرة مطعم يقدم أصابع الدجاج فقط لن تنجح بجنوب لويزيانا المعروف بمأكولاته المتنوعة. مشيرًا إلى أن السوق تتجه نحو التنوع والمأكولات الصحية المشوية.
رحلة جمع التمويل الشاقة والعمل اليدوي
رغم الرفض الأكاديمي القاطع لم يستسلم غريفز ولا شريكه. فجاب الاثنان كل بنوك المدينة لطلب تمويل، لكن الشكوك كانت تحاصر فكرتهما، سواء بسبب المفهوم التجاري الغريب أو لافتقارهما إلى الخبرة السابقة. كما سمعا مرارًا أنهما بحاجة إلى “وظائف حقيقية” وأن المشروع محكوم عليه بالفشل المسبق.
غير أن ذلك الرفض زاد من عزيمتهما. لذلك قرر غريفز تجميع المال بنفسه وبجهده اليدوي؛ حيث سافر إلى لوس أنجلوس للعمل 90 ساعة أسبوعيًا كعامل لحام بمصفاة شيفرون؛ هناك لقّبه زملاؤه بـ “هوليوود”، وكانوا أول من آمن بخطته الطموحة.
مغامرة ألاسكا وصيد سمك السلمون
وخلال عمله بالمصفاة تعرّف غريفز على وايلد بيل تولار الذي نصحه بالعمل بصيد الأسماك التجارية في ألاسكا، رغم خطورته الشديدة والمميتة. وشدّ الرحال إلى ألاسكا، وقطع طريقه بالهيتشك على الشاحنات حتى وصل إلى مدينة ناكّنك النائية.
هناك خيّم غريفز على التندرا المتجمدة مكتفيًا بوجبة من “فول باللحم” كغذاء يومي. وبعد شهر نجح في إقناع قبطان سفينة بتوظيفه بصيد سمك السلمون الأحمر (Sockeye).
كانت المهمة شاقة وخطرة؛ إذ امتدت أيام العمل بذروة الموسم إلى 20 ساعة يوميًا. وخلال تلك الفترة القاسية كان يطهو لزملائه على السفينة ويحدثهم عن حلمه بفتح المطعم.
العودة بالمبلغ الكافي والمستثمرون الجدد
بعد مغامرته في لوس أنجلوس وألاسكا، وعمله لفترات قصيرة في مصافٍ بدنفر وهاواي، عاد غريفز إلى باتون روج ومعه 50 ألف دولار وحلم أقوى من أي وقت مضى.
لكنه أدرك أن هذا المبلغ لا يكفي لافتتاح مطعم، فبحث مجددًا عن مستثمرين، وهذه المرة وجد آذانًا صاغية ومؤمنة بفكرته.
جمع غريفز 90 ألف دولار كديون ثانوية، بينها استثمارات صغيرة من أصدقاء تعرف عليهم أثناء عمله في المصافي. كما حصل على قرض مالي من إدارة المشاريع الصغيرة (SBA) بقيمة 50 ألف دولار، ما أكمل رأس المال اللازم للبدء.
إطلاق “الأم السفينة” والنجاح الصاعق
مبدئيًا كان غريفز يفكر في تسمية المطعم “Sockeye’s” تكريمًا لرحلته بصيد السلمون، لكنه عدل عن الفكرة وفضّل تسميته باسم كلبه اللابرادور الأصفر المحبوب “Raising Cane”.
ذلك الكلب كان يرافقه أثناء بناء المطعم. ومنذ ذلك الحين أصبح “Cane” التميمة الرسمية للسلسلة.
ولاحقًا افتتح غريفز رسميًا أول فروع “Raising Cane’s”، الملقب بـ “الأم السفينة” (The Mothership)، مقابل البوابة الشمالية لجامعة LSU، يوم 28 أغسطس 1996. ولم تفتح الأبواب إلا عند الساعة 9:30 مساءً بعد أن تمكّن من تشغيل جهاز التسجيل النقدي، لكن النجاح كان صاعقًا منذ اللحظة الأولى.
الإنجازات المليارية وريادة الأعمال التلفزيونية
في السنوات اللاحقة كان غريفز يعمل ليل نهار، حتى إنه كان يترك نافذة شقته مفتوحة ليسمع حركة الزبائن في المطعم وينزل فورًا للمساعدة عند الحاجة. أما سيلفي فغادر المشروع عام 1999 بعد افتتاح الفرع الثاني.
واليوم تعد Raising Cane’s واحدة من أسرع العلامات نموًا في عالم المطاعم، مع أكثر من 900 فرع حول العالم.
وتقدر مجلة فوربس ثروة غريفز بنحو 22 مليار دولار، ما يجعله أغنى مطوّر مطاعم في الولايات المتحدة، واحتل المرتبة 47 ضمن قائمة فوربس 400 لأغنى الأمريكيين لعام 2025.
وتشتهر السلسلة بشعارها ONE LOVE – وجبات أصابع الدجاج الشهية وبصلصتها المميزة Cane’s Sauce التي حازت لقب أكثر الصلصات المطلوبة في صناعة المطاعم.
التكريم التلفزيوني ونقل الخبرة
في عام 2024 انضم غريفز إلى برنامج Shark Tank الشهير على قناة ABC في موسمه السادس عشر كـ “مستثمر ضيف”، وشارك في بعض الحلقات إلى جانب الحكام الرئيسين للبرنامج.
وفي هذا الجانب قال عن مشاركته: “بصفتي من متابعي البرنامج منذ سنوات، أشعر بالحماس لنقل خبرتي في مجال المطاعم والأعمال إلى روّاد الأعمال ومساعدتهم على بناء علاماتهم التجارية”.
وأكد تود غريفز أن الأمر بالنسبة له لا يتعلق بما يكسبه، بل بما يقدمه للآخرين. مشيرًا إلى أنه يتطلع لأن يكون الشخص الذي يمنح فرصة تغير حياة رائد أعمال شاب.