في ندوة تحفيزية وتعريفية لطلاب إحدى الكليات، شاركت في تقديمها مع أحد الزملاء الفضلاء، بدأ زميلي في تعريف وإرشاد وتحفيز المستمعين بكل حماس، فكان كثيرًا ما يحث في حديثه على التركيز على نقاط الضعف، وأهمية تقويتها ومعالجتها والعناية بها، مع ترك التركيز على نقاط القوة؛ لأنها بطبيعتها قوية، ولا تحتاج إلى تركيز وفقًا لوجهة نظره.
ولما جاء دوري في الحديث، قلت للحضور: اسمحوا لي أن أخالف وجهة نظر زميلي حول التركيز على نقاط الضعف فينا وتقويتها، وترك نقاط القوة؛ كونها بطبيعتها قوية، فاعتقادي الجازم أن نقاط القوة لدينا كفيلة بتحقيق النجاح الذي نسعى إليه في الحياة، وأنها هي الجديرة بالتركيز والاهتمام؛ لأنها ما يميزنا عن غيرنا، فلو أن شخصًا متميزًا في الرسم مثلًا، ولديه شغف بهذا المجال، بينما تكمن نقطة ضعفه في مادة الرياضيات، فهل ننصحه بإهمال الرسم والتركيز على الرياضيات حتى يتميز؟!.
أعتقد أن تحولَّه هذا ربما قوَّاه بعض الشيء، وفي الأمد القريب في مادة الرياضيات، غير أنه سيخسر الشيء الأهم وهو ما يميزه على المدى الطويل، فلا يوجد نجاح دائم وقوي يحدث على المدى القصير؛ وبعبارة أخرى: ما يبدو صعبًا أو مستحيلًا على المدى القصير، يمكن إنجازه على المدى الطويل؛ وذلك بالتركيز على ما يميزنا.
لكل إنسان قسمه ونصيبه من المواهب والقدرات في هذه الحياة، فكما أنَّ المال والجمال والجاه قسمة من الله الحكيم العليم، فكذلك القدرات والمواهب، بل وفي كثير من الحالات، نجد هذه القدرات والمواهب هي من قاد وأنقذ كثيرين ونقلهم من الفقر إلى الغنى، ومن الفشل إلى النجاح، ومن الشقاء إلى السعادة، فالعظماء في أي مجال لم يصبحوا كذلك، إلا لأنهم ركزوا على نقاط قوتهم فأبرزوها وعرفوها.
وكمثال على ذلك، أذكر أنني قرأت ذات يوم عن فرقة الرووك الموسيقية الإنجليزية “The Rolling Stones” والتي تشكلت في لندن عام1962 ، وما شدني في قصة هذا الفريق، أنه أكثر فرق الرووك استمرارًا وإنتاجًا؛ إذ يمتد عمره لأكثر من 50 عامًا. والعجيب أن الفريق مكون من أربعة أعضاء كلهم تجاوز الـ 50 عامًا، ولكنهم ما زالوا يُحيون بأنفسهم الحفلات في جميع أنحاء العالم، والتي تكون كاملة العدد، لكنهم قبل كل حفل يراعون إعداد مبنى متنقل ضخم يسع لأكثر من 200 ألف شخص؛ وهو ما يتطلب إعدادًا هائلًا (20 قاطرة، وطائرات، وفريق إعداد صوتيات ومرئيات)، غير أن دور أعضاء الفريق الأربعة يقتصر على اعتلاء خشبة المسرح بعد اكتمال التجهيزات.
لم يشرف أعضاء الفريق على التجهيز والإعداد، بل يقتصر دورهم على ما يتفوقون فيه وما يتميزون فيه وهو أداء الحفل الذي يميزهم فقط؛ ومن ثم تحية الجمهور، ثم الانصراف. لقد تركوا الأمور الأخرى لأشخاص ماهرين فيها، ولم يشغلوا أنفسهم بها.
أنا لا أحب هذا النوع من الفن ولا أستسيغه، لكني وجدت في هذا الفريق تحديدًا مثالًا واضحًا على قوة التركيز على المواهب واستغلالها وتطويرها بشكل مستمر؛ ما جعلهم في نجاح مستمر طوال نصف قرن دون توقف.
عندما نركز معظم وقتنا وقدراتنا وطاقاتنا على مواهبنا، فإننا نجلب لأنفسنا مكاسب ومزايا مبهرة على المدى البعيد، فلم يبرع الأبطال الرياضيون في مجالاتهم إلا لتركيزهم على مواهبهم الفريدة، ومواصلتهم في تحسينها وتطويرها؛ حتى حققوا طموحاتهم، فالفائزون يشتركون في شيء واحد وهو تركيز معظم وقتهم فيما يجيدون بطبيعتهم، ولا يجدون صعوبة في أدائها، حتى وإن كانت أمورًا تافهة في نظرنا.
تأمَّل مثلًا في “مِستر بِن” واستغلاله شخصيته الطولية، وناصر القصبي وقدرته على التمثيل والتقليد وغيرهم، فالمواهب والقدرات موجودة في كل شخص كان صحيحًا أو مُقعدًا كبيرًا أو صغيرًا رجلًا أو امرأة، إنما الفارق بين الناس في أن هناك أشخاصًا بحثوا ونقبوا عن هذه المواهب والقدرات في ذواتهم، ثم استغلوها جيدًا، بينما ظلَّ آخرون في الظل ينظرون دون حراك.
وعلى صعيد عالم المال والأعمال، فإن التركيز على نقاط الضعف دون نقاط القوة والتميز، لن يمنحنا القوة على التنافس في الأسواق، ولا في أي مجال آخر، بل أقصى ما نصل إليه، هو نقلنا فقط من مرحلة الضعف إلى مرحلة المساواة مع باقي المنافسين.
وأستدل هنا بما قاله “دال سليفن”؛ أستاذ إدارة الأعمال: “إذا أضعت وقتًا كبيرًا على تحسين نقاط ضعفك، فإنَّ كل ما ستصل إليه هو مزيد من نقاط الضعف والهوان”.