في الماضي القريب كانت القرارات الإدارية تعتمد بشكلٍ كبير على الحدس والخبرة الشخصية. ولكن مع تزايد تعقيد عالم الأعمال بات من الضروري تطوير أدوات وأساليب جديدة لاتخاذ القرارات.
في كتابه “Good Judgment: Making Better Business Decisions” يقدم الدكتور ريتشارد ديفيس نظرة شاملة على أحدث التطورات في مجال صنع القرار. وكيف يمكن للشركات الاستفادة من هذه التطورات لتحقيق النجاح.
كتاب Good Judgment
بدايةً يؤكد “ديفيس” أن الحكم الجيد يتعلق في المقام الأول بالأشخاص. ورغم أن القرارات تبدو للوهلة الأولى كعملية تحليلية بحتة فإن الأشخاص المحيطين بنا يلعبون دورًا حاسمًا للتأثير في نتائج هذه القرارات. كل قرار نتخذه، سواء كان يتعلق بالعمل أو الحياة الشخصية، ينطوي على اختيار الناس الذين نثق بهم ونحيط أنفسنا بهم.
قد يبدو الأمر بسيطًا لكنه يعكس تعقيدًا كبيرًا في كيفية تكوين علاقاتنا والتعامل معها. فإذا تمكنت من تحسين قدرتك على تقييم الأشخاص فإن حياتك تصبح أكثر نجاحًا وسعادة.
القدرة الفطرية على فهم الآخرين
وانتقالًا إلى النقطة الثانية يبرز كتاب “Good Judgment: Making Better Business Decisions” الفكرة القائلة بأن لدينا قدرة فطرية على فهم الآخرين. هذه القدرة تعرف باسم “الفطنة”، وهي تمثل العضلة المعرفية التي تمكننا من اكتساب نظرة ثاقبة على دوافع وسلوكيات الآخرين.
وبحسب الدكتور ريتشارد ديفيس فإن الأشخاص الذين يتمتعون بهذه الفطنة يمتلكون ميزة تنافسية في العمل والحياة. فعندما نفكر في الأشخاص الناجحين من حولنا نجد أنهم غالبًا ما يتمتعون بحياة منزلية سعيدة، وأطفال متكيفين، ومهارات تفاوضية عالية. هذه النجاحات تأتي نتيجة فهمهم العميق للناس.
الأمر المثير هو أن هذه الفطنة ليست مجرد مهارة فطرية، بل هي عضلة يمكن تنميتها. ومن خلال تحسين قدرتك على قراءة الناس وفهم دوافعهم يمكنك اتخاذ قرارات أكثر حكمة في حياتك اليومية.
يتضمن هذا تعزيز التعرف على سمات الشخصية الخفية، والتي قد لا تكون ظاهرة في التعاملات اليومية. فهم الناس بشكل أفضل يعني القدرة على التنبؤ بسلوكهم والتعامل مع المواقف الصعبة بفاعلية أكبر.
تقنيات فاعلة لكشف سمات الشخصية
وإلى جانب كل هذه النقاط يشير الدكتور ريتشارد ديفيس إلى أن الفطنة يمكن تعزيزها باستخدام تقنيات معينة تساعد في كشف جوانب شخصية الآخرين. هذا ليس بالأمر السهل دائمًا. حيث نواجه جميعًا تحيزات معرفية قد تؤدي إلى تقييمات غير دقيقة للأشخاص. ومع ذلك فإن تطوير القدرة على تجاوز هذه الحواجز المعرفية يمكن أن يمنحنا نوعًا من “الرؤية بالأشعة السينية” للشخصيات المحيطة بنا.
تلك الرؤية التي تمكننا من قراءة الناس بعمق تمثل نوعًا من القوى الخارقة التي تحسن قرارات حياتنا بشكل ملحوظ. وسواء كان الأمر يتعلق بتحديد الشريك المناسب في العمل أو الحياة، أو حتى كيفية التعامل مع زملاء العمل، فإن هذه القدرة تتيح اتخاذ قرارات أكثر استنارة.
من الفطنة إلى الاعتماد على التكنولوجيا
يشير الدكتور ريتشارد ديفيس؛ في كتابه “Good Judgment: Making Better Business Decisions”، إلى أن الاعتماد المتزايد على الأجهزة الذكية أدى إلى تراجع ملحوظ في التواصل البصري. وهو عنصر أساسي في فهم مشاعر الآخرين وقراءة لغة الجسد. فبدلًا من النظر في عيون من نتحدث إليهم نجد أنفسنا منشغلين بشاشات هواتفنا؛ ما يقلل من قدرتنا على استيعاب الإشارات الدقيقة التي تنقلها تعبيرات الوجه وحركات الجسم.
ويوضح الكاتب كيف أن البنية التحتية في الأماكن العامة. مثل: المطارات، تكيفت مع هذا التغيير السلوكي. وبدلًا من اللافتات المعلقة على الجدران توجد الآن لافتات مضيئة على الأرض. وذلك يدفع الناس إلى النظر إلى أسفل بدلًا من رفع رؤوسهم. هذا التحول يعكس بوضوح مدى تأثير التكنولوجيا في سلوكنا وطريقة تفاعلنا مع البيئة المحيطة بنا.
العودة إلى التواصل البصري
يدعو الدكتور ديفيس إلى ضرورة إعادة تدريب أنفسنا على التواصل البصري والاهتمام بمن حولنا. فالتفاعل الاجتماعي ليس مجرد مهارة بل هو ضرورة أساسية للحياة السعيدة والناجحة. إذا واصلنا الانغماس في عالمنا الرقمي فقد نفقد قدرتنا على بناء علاقات عميقة ومعنىة مع الآخرين.
ويشكك الدكتور ديفيس في مفهوم الذكاء العاطفي، الذي أصبح شائعًا جدًا في السنوات الأخيرة. ويرى أن التركيز الزائد على التعاطف والمهارات الاجتماعية حجب عن الأنظار أهمية الفهم العميق لشخصية الإنسان. فالذكاء العاطفي، كما يراه الكاتب، تحول من قدرة فطرية إلى ميل اجتماعي. ما أدى إلى تكوين صناعة كاملة مبنية على هذا المفهوم الغامض.
من التعاطف إلى الفهم العميق للشخصية
يستعرض الدكتور ديفيس؛ في كتابه “Good Judgment: Making Better Business Decisions”، أهمية التمييز بين التعاطف والفهم العميق للشخصية. فبينما يساعدنا التعاطف في الشعور بمشاعر الآخرين فإن الفهم العميق لسماتهم الأساسية هو ما يسمح لنا بالتنبؤ بسلوكهم واتخاذ قرارات أكثر فاعلية في التعامل معهم.
على سبيل المثال: معرفة أن شخصًا ما غاضب قد تكون مفيدة ولكن فهم أسباب غضبه الدائم وتأثير ذلك في سلوكه هو ما يتيح لنا التعامل معه بفاعلية أكبر.
ويعود الدكتور ديفيس إلى أصل مفهوم الذكاء العاطفي، موضحًا كيف تحول من قدرة فطرية على فهم المشاعر إلى ميل اجتماعي يتسم به الأشخاص الذين يتمتعون بمهارات تواصل جيدة. ويشير إلى أن هذا التحول أدى إلى تكوين صناعة كاملة مبنية على هذا المفهوم الغامض.
في النهاية يقدم لنا كتاب “Good Judgment” خارطة طريق عملية لتحسين قدرتنا على فهم الآخرين واتخاذ قرارات أكثر حكمة. ومن خلال تزويدنا بالأدوات اللازمة لكشف سمات الشخصية الخفية وتجاوز التحيزات المعرفية يمكّننا هذا الكتاب من بناء علاقات أكثر عمقًا وتحقيق نجاح أكبر في حياتنا المهنية والشخصية.
إنه ليس مجرد كتاب بل هو دليل عملي لكل من يسعى إلى تحسين مهاراته في التعامل مع الناس.