ما من شكٍ في أن التكنولوجيا قد غزت حياتنا، وأصبحت جزءًا لا يتجزأ منها، فالحواسيب والهواتف الذكية باتت رفقاء الدرب في كل مكان وزمان. ومع هذا التطور الهائل، برزت سلوكيات جديدة أثرّت في سلوك الأفراد والمجتمعات، ومن أبرز هذه السلوكيات “التسكع السيبراني”.
وهو مصطلح أصبحنا نسمعه باستمرار، يُشير إلى تلك الظاهرة التي يستخدم فيها الإنترنت والأجهزة الرقمية لأغراض شخصية وغير منتجة خلال ساعات العمل أو الدراسة.
علاوة على هذا الأمر، فإن التسكع السيبراني ليس مجرد تسلية عابرة، بل سلوك معقد له أبعاده النفسية والاجتماعية والاقتصادية. فمن الناحية النفسية، قد يكون التسكع وسيلة للهروب من الضغوط والملل، أو محاولة للبحث عن الهوية والانتماء في عالم افتراضي.
ومن الناحية الاجتماعية، قد يؤدي إلى عزل الأفراد عن محيطهم الحقيقي، وإضعاف العلاقات الاجتماعية. أما من الناحية الاقتصادية، فإنه يمثل خسارة كبيرة للشركات والمؤسسات؛ حيث يؤثر سلبًا في الإنتاجية، ويقلل من كفاءة الموظفين.
التسكع السيبراني
كذلك، فإن أسباب التسكع السيبراني متعددة ومتشابكة، فمنها عوامل شخصية، مثل: الملل، والضغط النفسي، وعوامل بيئية، مثل: طبيعة العمل الروتينية، وقلة التحفيز، وعوامل تقنية، مثل: سهولة الوصول إلى الإنترنت وتوفر المحتوى الترفيهي.
من ناحية أخرى، فإن تأثيرات التسكع السيبراني متنوعة ومتشعبة، فبالإضافة إلى ما ذكرناه سابقًا، فإنها قد تؤدي إلى مشكلات صحية، مثل: الإجهاد، والإرهاق، واضطرابات النوم، وقد تتسبب في مشكلات عائلية واجتماعية.
على سبيل المثال، قد يؤدي الإدمان على مواقع التواصل الاجتماعي إلى إهمال العلاقات الأسرية والأصدقاء، وقد يتسبب في مشكلات نفسية، مثل: الاكتئاب، والقلق.
بينما، فإن الإدمان على الألعاب الإلكترونية قد يؤدي إلى العزلة الاجتماعية، وتدهور الأداء الأكاديمي والمهني. في حين، أن الإدمان على التسوق الإلكتروني قد يؤدي إلى الديون والمشكلات المالية.
ما التسكع السيبراني؟
يعرف التسكع السيبراني بأنه استغلال الموظفين لأجهزة وشبكات المؤسسة لأغراض شخصية خلال ساعات العمل، بدلًا من التركيز على المهام الوظيفية الموكلة إليهم.
ويتجلى هذا السلوك في مجموعة متنوعة من الأنشطة، مثل: تصفح مواقع التواصل الاجتماعي، ومشاهدة المحتوى الترفيهي، وإنجاز المهام الشخصية. بل وربما ممارسة الألعاب الإلكترونية.
كما يمتد هذا السلوك إلى ما هو أبعد من مجرد تشتيت الانتباه؛ إذ يشكل تهديدًا مباشرًا للإنتاجية والكفاءة في بيئة العمل.
علاوة على ما فات، فإن هذا التسكع يحمل في طياته مخاطر أمنية جسيمة على المؤسسات. فباستخدام الموظفين لأجهزة الشركة في تصفح مواقع غير موثوقة أو تنزيل ملفات مشبوهة، يتعرضون لخطر اختراق أنظمة المؤسسة وبرامجها. ما قد يؤدي إلى تسريب البيانات الحساسة أو تعطيل العمليات التشغيلية.
من ناحية أخرى، قد يستغل المتسللون الأجهزة المتصلة بشبكة المؤسسة للوصول إلى معلومات سرية أو ابتزاز المنظمة. على سبيل المثال، يمكن للمتسللين الاستيلاء على كلمات المرور أو الوصول إلى الملفات المالية؛ ما يتسبب في خسائر مالية كبيرة للمؤسسة.
كما أن التسكع السيبراني قد يبدو سلوكًا بسيطًا وغير مؤثر، فإن عواقبه وخيمة على مستوى الفرد والمؤسسة على حد سواء. كذلك، فإن تكرار هذا السلوك قد يؤدي إلى تدهور الأداء الوظيفي للموظف، وتفاقم العلاقات بين الزملاء، وزيادة التوتر في بيئة العمل.
بينما على مستوى المؤسسة، فإن التسكع السيبراني يهدد سمعتها ومرونتها، ويفتح الباب أمام المخاطر الأمنية التي قد تؤدي إلى خسائر فادحة.
تهديد يتربص بإنتاجية المؤسسات
تتسلل ظاهرة التسكع الإلكتروني إلى بيئة العمل، مخلفة آثارًا سلبية على الإنتاجية والكفاءة. فعندما يمضي الموظفون أوقاتًا طويلة في تصفح مواقع التواصل الاجتماعي أو ممارسة الألعاب الإلكترونية، فإنهم في الواقع يسرقون من وقتهم ووقت الشركة.
فإذا كان الموظف يتقاضى أجرًا بالساعة، فإن كل دقيقة يقضيها في التسكع تعني خسارة مالية مباشرة لصاحب العمل. هذه الخسائر تتضاعف عندما نأخذ بعين الاعتبار المشاريع المتأخرة، والأهداف غير المحققة نتيجة لهذا السلوك غير المنتج.
-
عبء إضافي وتوتر متزايد
علاوة على ما مضى، فإن التسكع الإلكتروني يؤدي إلى زيادة عبء العمل على الموظفين أنفسهم. فبعد أن يضيعوا ساعات عمل في أنشطة غير ذات صلة، يجدون أنفسهم مضطرين للعمل لساعات إضافية لإنهاء مهامهم.
هذا الأمر لا يؤثر سلبًا في الإنتاجية فحسب، بل يزيد أيضًا من مستوى التوتر لدى الموظفين، ويخل بتوازن حياتهم المهنية والشخصية. فبدلًا من الاستمتاع بوقتهم خارج العمل، يجدون أنفسهم يحملون هموم العمل معهم إلى منازلهم.
-
سمعة المؤسسة على المحك
من ناحية أخرى، فإن هذه الظاهرة تشكل تهديدًا خطيرًا لسمعة المؤسسة. فإذا كان الموظفون يقضون وقتًا طويلًا في تصفح الإنترنت خلال ساعات العمل، فإن ذلك يعطي انطباعًا سلبيًا عن الشركة لدى العملاء والشركاء التجاريين.
فإذا اكتشف العميل أن الشركة تفوّت عليه الوقت والجهد، فمن المحتمل أن يلجأ إلى منافسين آخرين يقدمون خدمات أفضل. كما أن هذا السلوك قد يؤدي إلى فقدان ثقة الموظفين أنفسهم في الشركة. ما يزيد من معدل دوران الموظفين وتكاليف التوظيف والتدريب.
-
ضرورة وضع حد
بينما توفر التكنولوجيا الحديثة أدوات قوية لزيادة الإنتاجية، فإنها في الوقت نفسه قد تكون مصدرًا للإلهاء والتسويف. لذلك، فإن على الشركات أن تتخذ إجراءات حازمة للحد من ظاهرة التسكع الإلكتروني.
ويمكن تحقيق ذلك من خلال وضع سياسات واضحة بشأن استخدام الإنترنت في مكان العمل، وتوفير برامج تدريبية للموظفين حول إدارة الوقت وزيادة الإنتاجية. كما ينبغي للمديرين أن يكونوا قدوة حسنة، وأن يظهروا التزامهم بالعمل الجاد.
حلول مبتكرة لمكافحة التسكع الإلكتروني
لقد أدركت الكثير من الشركات خطورة التسكع الإلكتروني، وبالتالي تبنت مجموعة من الحلول المبتكرة للحد منه. وأبرز هذه الحلول:
- برامج المراقبة الذكية: تعتمد هذه البرامج على تقنيات متطورة لتحليل أنشطة الموظفين على الإنترنت، وتحديد المواقع التي يزورونها، والوقت الذي يقضونه فيها. وبناءً على هذه البيانات، يمكن للشركات تحديد الموظفين الذين يكثرون من التسكع الإلكتروني، واتخاذ الإجراءات اللازمة.
- تقييد الوصول إلى المواقع غير ذات الصلة: بإمكان الشركات حجب المواقع التي لا علاقة لها بالعمل. مثل: مواقع التواصل الاجتماعي، ومواقع الألعاب، خلال ساعات العمل.
- وضع سياسات واضحة: ينبغي للشركات وضع سياسات واضحة بشأن استخدام الإنترنت في مكان العمل، وتوعية الموظفين بها. كما يجب أن تتضمن هذه السياسات تحديد الأوقات المسموح فيها بتصفح الإنترنت، والمواقع المسموح بها، والعواقب التي تترتب على مخالفتها.
- توفير بدائل ترفيهية: تستطيع الشركات توفير بعض الأنشطة الترفيهية للموظفين خلال وقت الاستراحة. مثل: ألعاب الطاولة، أو النوادي الرياضية، لتقليل الرغبة في تصفح الإنترنت.
- حوافز تشجيع الإنتاجية: يمكن للشركات مكافأة الموظفين الذين يظهرون التزامًا عاليًا بالعمل وإنتاجية عالية. مثل: منحهم مكافآت مالية أو ترقيات.
التوازن بين الرقابة والحريات الشخصية
على الرغم من أن مكافحة التسكع الإلكتروني أمر ضروري، فإنه يجب أن يحدث ذلك بطريقة تحافظ على حريات الموظفين الشخصية. فالمراقبة المستمرة لأنشطة الموظفين قد تثير الشعور بعدم الثقة، وتؤثر سلبًا في معنوياتهم.
لذلك، يجب أن يكون هناك توازن بين الحاجة إلى مراقبة أداء الموظفين والحاجة إلى احترام خصوصيتهم.
دور القيادة في مكافحة هذه الظاهرة
يؤدي القادة دورًا حاسمًا في مكافحة التسكع الإلكتروني. فمن خلال تقديم مثال جيد، وتشجيع روح الفريق والتعاون، يمكن للقادة أن يوفروا بيئة عمل محفزة ومشجعة، تقلل من الرغبة في إضاعة الوقت.
كما يجب على القادة أن يتواصلوا بوضوح مع موظفيهم بشأن أهمية الإنتاجية، وأن يوضحوا لهم العواقب السلبية للتسكع الإلكتروني على الشركة ومستقبلهم المهني.
في النهاية، فإن مكافحة التسكع الإلكتروني تتطلب استثمارًا في الموارد البشرية. لذا، ينبغي للشركات أن توفر برامج تدريبية للموظفين حول إدارة الوقت وزيادة الإنتاجية، وأن تهتم براحتهم وسعادتهم في العمل. فالموظف الذي يشعر بالرضا عن عمله ومرتبط به سيكون أقل ميلًا إلى إضاعة الوقت في أنشطة غير منتجة.