كتبت: حنان سُليمان
- “لبّيه” و”تُهون” تطبيقان يدعمان الاستثمار في الوقاية لتجنب تكلفة العلاج
- دراستان: سوق الصحة النفسية الرقمية 6.2 مليار دولار في 2023 والنمو المتوقع 20% سنويًا
- فارس غندور: الخصوصية متوفرة.. والمستثمرون الاستراتيجيون أنسب من صناديق رأس المال
- باسم البلادي: العافية النفسية أساس المجتمع الحيوي وفق رؤية 2030
أمام التأثير السلبي الكبير لجائحة كورونا في الصحة النفسية ظهرت فرص الاستثمار في خدمات وحلول تقنية تخص العافية الشاملة لا من باب العلاج فقط بل من الوقاية.
لم يقتصر الاهتمام بالصحة النفسية خلال السنوات الأخيرة على الأفراد وإنما امتد إلى شركات مثل زين وأرامكو التي حرصت على تحسين ظروف وبيئة العمل لموظفيها؛ فاستحدثت برامج وتعاقدات مع تطبيقات الصحة النفسية الرقمية التي راج سوقها لتقدم الدعم لموظفيها.
تتراوح أنواع الدعم بين فرص التعلم وتطوير المهارات والتدريبات وورش العمل وبرامج المزايا المختلفة مثل: اللياقة البدنية والصحة النفسية.
تؤمن هذه الشركات بأن بيئة العمل الصحية تشجع فيها الشركة الموظف على أخذ حقوقه وأجازاته، بل تتعامل مع هواياته وشغفه على أنهما أساسيات لتعزيز إنتاجيته، وباعتبارها ضمن باقة مزايا التوظيف التي تقدمها وتزيد بها من تنافسيتها في السوق السعودي واستقطاب المهارات واستبقائها في المكان الذي يقضي فيه الإنسان ثلث يومه.
عالميًا تشير الأرقام إلى أن سوق تطبيقات الصحة النفسية يشهد نموًا متسارعًا قدرت دراسة لـ”جراند فيو ريسيرش” للأبحاث عام 2023 حجم سوقها العالمي بـ6.2 مليار دولار.
وبحسب دراسة أخرى لشركة “ديلويت جلوبال” للأبحاث والاستشارات عام 2022 فإن حجم الإنفاق العالمي على هذه المنصات من المتوقع أن يصل إلى 20 % سنويًا، ربما من أشهرها بالنسبة لنا “ليرا هيلث” و”هيد سبيس” و”كالم”.
وعربيًا احتل قطاع التكنولوجيا الصحية والويب وتكنولوجيا السفر ثاني أكبر نصيب من تمويل الشركات الناشئة لشهر أغسطس الماضي بعد قطاع الخدمات اللوجستية بمبلغ 15 مليون دولار بحسب رصد بحثي لمنصة “ومضة”.
لا يحدد الرصد نصيب شركات الصحة النفسية في قطاع التكنولوجيا الصحية، وإن كان الاهتمام بها بلغ مستويات غير مسبوقة مع توسع الشركات العاملة فيها لاستهداف الشركات أيضًا بعد أن كان جمهورهم الأفراد فقط.
ويشير تقرير لمنظمة الصحة العالمية إلى أن هناك 2.5 إخصائي نفسي لكل 100 ألف شخص في دول الخليج وهو معدل أقل من المتوسط العالمي الذي يصل إلى 7 إخصائيين نفسيين.
أمام هذا النمو على الصعيدين العالمي والمحلي غيّرت بعض الشركات في هذا المجال من نموذج عملها حتى يستوعب الصعيدين معًا فتتوجه إلى الأفراد والشركات بعد أن بدأت وهي معنية بالأفراد فقط مثل: منصة “لبّيه” المُشتق اسمها من التلبية، وكأنها تقول للمستخدم “إني أسمعك وجاهز لخدمتك”.
اليوم تنشط عدة تطبيقات للصحة النفسية في السعودية في مجال الطب الاتصالي المقدم عن بعد وهي معتمدة من وزارة الصحة وتحافظ على الخصوصية وسرية المستفيدين.
“جاهز لخدمتك”
تعتبر “لبّيه” أول منصة إلكترونية للصحة النفسية حاصلة على ترخيص وزارة الصحة لتقدم خدمات استشارية نفسية وأسرية. انطلقت عام 2018 لكنها بدأت في العام قبله كمبادرة اجتماعية لتسهيل الوصول للعلاج النفسي عن طريق وسائل الاتصال الأساسية من رقم هاتفي وحسابات وسائل التواصل الاجتماعي، فيما أُتيحت استمارة تسجيل للمختصين الراغبين في التسجيل. جرى ذلك بالتعاون مع المركز الوطني للصحة النفسية وقت الجائحة.
يقول باسم البلادي، المؤسس والرئيس التنفيذي لـ”لبّيه”: “هناك رهان على المواطن السعودي في مجال الشركات؛ صحته وسلامته ركيزة أساسية لتحسين الاقتصاد”، لافتًا إلى ازدياد التنافسية بين القطاعين العام والخاص على الكفاءات الوظيفية.
جاء هذا الاهتمام المتزايد بالصحة النفسية على الصعيدين العالمي والمحلي، بحسب “البلادي”، ليتوافق مع رؤية السعودية 2030 القائمة على بناء اقتصاد مزدهر ينعم فيه الجميع بفرص متعددة للنجاح؛ عبر توفير بيئة عمل داعمة للشركات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة والاستثمار في أنظمة الرعاية الصحية والاجتماعية والتعليمية وصولًا إلى مجتمع حيوي هو أساس الاقتصاد المزدهر.
قصة شخصية وراء إطلاق المنصة تتعلق بتعرض “البلادي” لحادث صعب على دراجة بخارية في الولايات المتحدة أثناء دراسته هناك لإدارة الأعمال وإصابته باضطراب ما بعد الصدمة بعد أن مرّ بما أسماها “ظلمات ثلاثة” هي: الوحدة والغربة والمرض. اضطر للمتابعة مع طبيب أمريكي ساعده كثيرًا في عبور الأزمة، لكنه لمّا عاد إلى السعودية واستمر تواصلهما تساءل “البلادي” عن غياب أطباء مثله في السعودية بينما حصل هو على المساعدة من طبيبه رغم اختلاف اللغة والثقافة وبعد المسافة.
بأربعة شركاء مؤسسين بالإضافة إلى مستثمرين أفراد سعوديين، قدمت “لبّيه” حتى اليوم 56 مليون دقيقة استشارات منذ انطلاق المنصة في 2018 من مقرها بالمدينة المنورة. للمنصة مليوني مستخدم مسجل من أكثر من ثلاثين دولة يستفيدون من خدمات أكثر من ألف أخصائي نفسي سعودي.
بدأ تشغيل “لبّيه أعمال” الموجهة إلى الشركات لا الأفراد مع تقديم المنصة برنامج دعم للموظفين بإحدى الشركات العاملة في مجال التجارة الإلكترونية التي زاد حجم أعمالها بعد الجائحة ونما بشكل حصل معه ضغوطات كثيرة على الفريق التقني لديها حتى بدأت تخسر موظفيها. يقول البلادي: “قلتُ لصاحب الشركة وهو صديق لي أن لا معنى للنجاح إن خسرت نفسك أو خسرت فريق عملك”. كانت الخدمات المقدمة عبارة عن ورش عمل ومحتوى واستشارات. ولقي البرنامج استحسان الموظفين الذين لمسوا اهتمام شركتهم بهم.
تقدم اليوم “لبّيه أعمال” منظومة كاملة للعافية في معظمها عبر الإنترنت وتخدم 30 ألف موظفاً في شركات حكومية وخاصة متوسطة وصغيرة بالمملكة موضحة على التطبيق. تقوم المنظومة على ست ركائز هي الرفاهية النفسية، والإرشاد الاجتماعي، والتغذية الصحية، واللياقة البدنية، والتطوير المالي، والتطوير الشخصي عبر الموجهين المختصين “كارير كوتش”. معظم هذه الخدمات أونلاين وبعضها حضوري مثل محاضرات أو جلسات أو حملات توعوية للموظفين.
من التطورات الأخيرة للمنصة استحواذها على شركة “نَفَس” الإماراتية دون الإفصاح عن قيمة الصفقة لدمج التأمل في منظومة العلاج المقدمة. ويعمل فريق عمل المنصة حاليا على تطويع استخدام تقنية الذكاء الاصطناعي في الدردشة مع العملاء وتوجيههم للمختصين المناسبين للحالة المطلوبة.
يختم البلادي حديثه لـ”رواد الأعمال” قائلا: “ما زال المجال جديدا، والسوق ليس كبيرا لا من ناحية العملاء ولا من ناحية المنافسين. التحدي ليس في من يقدم الخدمة لكن في توعية الشركات بأهمية المفهوم نفسه. النمو أسهل على صعيد الأفراد. لدينا رغبة في النمو والتوسع لأسواق خليجية أخرى، لكن بناء الثقافة عند أصحاب الشركات في السعودية والمنطقة للاستثمار في الوقاية بدلا من العلاج يستغرق وقتاً”.
“هوّنها تُهون”
يرى فارس غندور، المؤسس والرئيس التنفيذي لمنصة “تهون” للصحة النفسية، أن التقبل عالي لدى الشركات في السعودية لتعزيز الصحة النفسية والاستثمار فيها بما يخدم الموظفين، وإن كانت الإمارات أكثر تقدمًا لأسباب تتعلق بنمو أكبر للقطاع الخاص هناك، بخلاف قدرتهم على جذب المهارات من خارج البلاد وتنوع الخلفيات.
ويقول “غندور” في تصريحاته لـ”رواد الأعمال”: “في أحيان كثيرة يكون لدى الموظفين مشاكل لا يلجأون خلالها لمسؤول الموارد البشرية بالشركة خوفًا من أن يؤثر إفصاحهم عما يمرون به في عملهم بالسلب”.
تعمل المنصة في السعودية بشكل رئيسي من مقرها بالرياض ولديها بعض العملاء في الكويت. وتقدم حلولًا وخدمات في العافية باللغة العربية بما يتناسب مع البيئة والثقافة المحلية، كما تنوي إضافة العافية الجسدية كذلك ودمجها في الأجهزة الرقمية القابلة للارتداء مثل ساعة أبل وغيرها.
يتابع “غندور”: “ليس كل الشركات المتقبلة لديها الميزانية لدعم موظفيها بخدمات في الصحة النفسية. البعض ربما يريد ورشة واحدة وآخرون يميلون لتسجيل 4 آلاف حساب لموظفيهم معنا. لدينا من المرونة ما يُمكّننا من العمل مع الجميع على أي مستوى أرادوا”.
انطلاقة “تُهون” في عام 2022 بدأت بالتوجه للأفراد وبناء علامتها التجارية عبر المحتوى المجاني المتنوع، كما يقول “غندور”، وبفضله نما عدد المستخدمين 11 ضعفًا في ستة أشهر تقريبًا على صعيد المشتركين الأفراد قبل الانتقال للشركات، التي هي مصدر العائد الأكبر للمنصة مقارنة بالأفراد.
أما قصة البداية فهي تجربة شخصية مر بها المؤسس الأردني عندما احتاج إلى الدعم النفسي وقت دراسته الجامعية ولم يجده. لم يُمنح وقتها إلا الدواء كعلاج في تجاوز لكل الخطوات الممكنة السابقة من محتوى توعوي وتمارين تنفس وغيرها.
وبحسب دراسة لشركة “بي دبليو سي” للاستشارات عام 2022 فإن أيام العمل الضائعة هباء بسبب الاكتئاب والقلق بلغت تكلفتها 3.5 مليار دولار سنويًا في دول الخليج. الدراسة نفسها تشير لاستطلاع وجد أن ثلث العاملين في منطقة الخليج من المحتمل جدًا أن يبحثوا عن فرصة عمل جديدة في العام التالي مقارنة بنسبة 16 % في المتوسط خارج الخليج.
تملك “تهون” اليوم، بعد عام واحد من التشغيل الفعلي لخدمة الشركات، قرابة عشرة عملاء من الشركات الكبرى في دول الخليج يفوق عدد الموظفين في كل منها 5 آلاف؛ من بينها شركة زين للاتصالات وبنك الرياض.
وبرأي مؤسس “تُهون” فإن المستثمرين الاستراتيجيين هم الأكثر ملاءمة للاستثمار في مجال الصحة النفسية للموظفين مقارنة بصناديق رأس المال المغامر؛ فالصحة النفسية تظل خدمة في النهاية تهم شركاء من يقدمها.