بدايةً كانت الأحلام مجرد همسات خجولة، تكاد تتلاشى بين زوايا شقة ضيقة بمدينة نيويورك الصاخبة. وهي الشقة التي عجز الشاب شين كوبلان عن تأمين إيجارها في مستهل مسيرته. لكن من رحم هذا العسر المادي وُلد الإصرار الذي لم يعرف اليأس قط.
في حين آثر هذا الشاب الطموح ترك مقاعد الدراسة الجامعية؛ إذ كان يفضل تكريس شغفه العميق لعالم التكنولوجيا المتقدمة والعملات المشفرة. حاملًا رؤية جريئة مفادها أن الأفكار الرائدة تكمن بانتظار من يحييها ويطلقها إلى حيز الوجود.
شين كوبلان
وتبعًا لشغفه وإيمانه بالاقتصاد اللامركزي تجول كوبلان بفكره الخصب بين نظريات هذا الاقتصاد المعقد. فأسس في عام 2020 شركته الرائدة “بولي ماركت”.
هذه المنصة المبتكرة لم تكن مجرد سوق عادية، بل هي سوق للتنبؤ اعتمدت تقنية البلوكتشين اللامركزية في صميم آليتها. وعليه، وبعد رحلة شاقة تخللتها بدايات متواضعة؛ حيث اضطر للتداول من فوق سلة غسيل اتخذها مكتبًا مؤقتًا. تحوّل هذا المشروع الناشئ ليصبح منصة عالمية يرتادها الملايين من المستخدمين حول العالم.
وهكذا، وفي غضون سنوات قليلة، تحوّل شين كوبلان. الذي لا يتجاوز عمره سبعة وعشرين عامًا، إلى أصغر ملياردير عصامي على مؤشر بلومبرج للمليارديرات.
بينما تعد هذه القصة بمثابة برهان قاطع على أن الشغف متى امتزج بالجرأة والرؤية الثاقبة. كانت النتيجة ميلاد قصة نجاح تتجاوز التوقعات التقليدية. وفي الحقيقة سطر كوبلان فصلًا جديدًا بالكامل في عالم الابتكار المالي والتقني. مؤكدًا أن قيمة الفكرة تكمن في قوة تنفيذها.
الحياة المبكرة والتعليم
وُلد شاين كوبلان يوم الثامن عشر من أغسطس لعام 1998. ونشأ في بيئة حيوية هي الجانب الغربي العلوي من مدينة نيويورك. ولذلك أسهم هذا المزيج من التنوع والديناميكية في تشكيل وعيه المبكر وتوجهه نحو الابتكار.
كما تلقى تعليمه الأساسي في المدارس العامة بمنطقة هيلز كيتشن. وبعد ذلك التحق بجامعة نيويورك لدراسة علوم الكمبيوتر.
وفي خطوة جريئة قرر مغادرة مقاعد الدراسة قبل إكمال شهادته الجامعية. وذلك حتى يتمكن من متابعة اهتماماته المبكرة والملحة في مجال العملات المشفرة وأسواق التنبؤ التي كانت تنمو بسرعة فائقة.
المسيرة المهنية
في بداية مسيرته أظهر كوبلان رؤية استثمارية ثاقبة في عام 2014. عندما شارك في الطرح الأولي لعملة إيثريوم. وبناءً على هذه الرؤية استحوذ على العملة المشفرة عندما كان سعرها منخفضًا بشكلٍ كبير عن قيمتها اللاحقة. وهو الأمر الذي شكل الأساس المالي القوي لانطلاقته.
في حين استلهم فكرته الرئيسة من نظريات الاقتصاد الرائدة؛ إذ تأثر بأفكار الاقتصادي فريدريش هايك حول أنظمة المعلومات اللامركزية. بالإضافة إلى عمل الأستاذ روبن هانسون حول مفهوم “Futarchy”. وبناءً على هذا التأصيل النظري أسس كوبلان منصة “بولي ماركت” في عام 2020.
اللامركزية والانتشار
وفيما يتعلق بآلية عملها تعمل “بولي ماركت” كسوق تنبؤ متكاملة. حيث تستخدم العقود الذكية على سلسلة بلوكتشين “بوليجون” لتسوية الرهانات بشكلٍ لامركزي وشفاف.
ونتيجة لذلك أصبح “بولي ماركت” الآن أكبر سوق تنبؤ في العالم؛ إذ سهّلت أكثر من 3.2 مليار دولار من الرهانات خلال الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2024.
وعلى الرغم من النجاح الساحق الذي حققته المنصة، واجهت تحديات قانونية كبيرة. مثلًا: داهم مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) مقرها في نوفمبر 2024. ولتجاوز هذه العقبة والحصول على الشرعية تحرك “بولي ماركت” بخطى إستراتيجية: تم الاستحواذ على “QCEX”. وهي بورصة وغرفة مقاصة معترف بها من طرف هيئة تداول السلع الآجلة (CFTC)، مقابل 112 مليون دولار.
وبالتالي وفّر هذا الاستحواذ للشركة الغطاء القانوني اللازم للعمل في الولايات المتحدة الأمريكية.
الإنجازات والتحولات المستقبلية
شكّل استثمار شركة (Intercontinental Exchange)، المالكة لبورصة نيويورك، في منصة “بولي ماركت” منعطفًا تاريخيًا. هذا الاستثمار، الذي قدّر بملياري دولار بناءً على تقييم سوقي وصل إلى 9 مليارات دولار، هو ما فتح الباب أمام تحول إستراتيجي ضخم، أدخل كوبلان رسميًا إلى نادي المليارديرات العصاميين.
وعلى إثر هذه الشراكة الكبرى اعتبر كوبلان أن هذا الحدث يمثل “خطوة كبرى إلى الأمام”. وفي هذا الصدد بدأ يرسل إشارات واضحة تنبئ بأنه بصدد تحويل “بولي ماركت” لتصبح أكثر من مجرد منصة توقعات.
كذلك في مطلع أكتوبر الجاري غرّد عبر حسابه على منصة “إكس” قائلًا: “إنها بداية فصل جديد”، مرفقًا تغريدته بقائمة من العملات الرقمية.
مستقبل العملة الرقمية “POLY”
تشير هذه التغريدة إلى إمكانية إطلاق العملة الرقمية الخاصة بالمنصة. والتي يرجح أن تحمل اسم “POLY”. وإذا تحقق ذلك فإن هذا التوسع في نموذج العمل يعني ثورة محتملة في الأسواق التنبؤية مستقبلًا؛ حيث تتحول المنصة إلى نظام مالي لامركزي متكامل.
وفي المجمل.يمكن وصف رحلة “بولي ماركت” بأنها قصة نمو أُسطورية: من فوق سلة غسيل بسيطة اتخذها كوبلان مكتبًا مؤقتًا في شقته، إلى منصة عملاقة تمتلك 1.3 مليون مستخدم وحجم تداول تراكمي تجاوز 18 مليار دولار.
كما بهذا الإنجاز استطاعت الشركة أن تصبح مثالًا يحتذى به عن تحويل فكرة ناشئة إلى شركة بمليارات الدولارات.