تزداد ملامح المرحلة المقبلة وضوحًا مع احتدام سباق الذكاء الاصطناعي بين القوتين العظميين، الولايات المتحدة والصين. هذا السباق لم يعد يدور حول التفوق التقني المجرد فحسب، بل بات يعكس صراعًا أعمق على النفوذ الاقتصادي والهيمنة الرقمية العالمية التي ستحدد ملامح القرن الحادي والعشرين. فبينما تسعى واشنطن إلى الحفاظ على ريادتها في مجال الرقائق والتقنيات المتقدمة عبر قيود التصدير، تواصل بكين التوسع بخطى ثابتة ومدفوعة بإرادة سياسية واستثمارات هائلة في البنية التحتية.
وفي خضم هذا المشهد المعقد، يتحدث جينسن هوانغ؛ الرئيس التنفيذي لشركة نفيديا، ليكشف عن موازين القوى الحقيقية من داخل غرفة العمليات التقنية. حذر هوانغ من أن التقدم الأمريكي لم يعد كبيرًا كما يعتقد، وأن المستقبل سيحسم ليس بما تملكه الدول من أدوات وتقنيات حالية، بل بما تتبناه من إستراتيجيات ذكية تضمن الاستدامة والتفوّق في سباق الذكاء الاصطناعي الطويل.
الدبلوماسية التقنية
يتبنى هوانغ خطًا دبلوماسيًا دقيقًا وواقعيًا بين البلدين المتنافسين. ففي الوقت الذي أشاد فيه بنماذج الذكاء الاصطناعي الصينية الصاعدة، مثل: DeepSeek وAlibaba وBaidu، فإنه أقر أيضًا بأن النماذج الأمريكية لا تزال بالوقت الراهن أكثر تطورًا من الناحية المعمارية. هذا التوازن بالتصريحات يعكس محاولة لإدارة التوترات التجارية والتقنية الحادة بين واشنطن وبكين.
ومع ذلك، لم يتردد هوانغ بالإشارة إلى أن النماذج الصينية مفتوحة المصدر باتت “متقدمة بشكلٍ كبير”. وهو ما يعكس تحولًا نوعيًا بقدرة بكين على اللحاق بالركب. هذه التصريحات تضع إشارة استفهام حول فاعلية القيود الأمريكية بإبطاء تقدم الصين التكنولوجي بـ “سباق الذكاء الاصطناعي”. كما تبرز أن الابتكار الصيني يسير بخطى سريعة رغم محاولات الحصار التقني.
جولات هوانغ في الصين والتحذير من هواوي
وفي سياق متصل، قام هوانغ يوليو الماضي بعدة زيارات مفاجئة إلى الصين عقب تشديد القيود الأمريكية على تصدير رقائق نفيديا المتقدمة إلى بكين. هذه الزيارات لم تكن مجرد جولات أعمال، بل حملت رسائل واضحة تحذر من التقليل من شأن أنظمة الرقائق الصينية التي تطورها شركات محلية عملاقة مثل: Huawei. هذا التحذير يهدف إلى دفع الإدارة الأمريكية نحو مراجعة سياساتها التجارية.
وفي تطور سياسي ذي صلة، أجرى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مكالمة مع الرئيس الصيني شي جين بينغ في سبتمبر الماضي، وأعلنا عن خطط لعقد لقاء ثنائي خلال قمة “أبيك” بكوريا الجنوبية نهاية أكتوبر. هذه التحركات السياسية تأتي بظل إدراك الطرفين لأهمية التقنية بالعلاقات الثنائية. كما تعكس رغبة محتملة بتهدئة التوترات التجارية والتقنية التي تهيمن على المشهد العالمي.
1. التفوق المزدوج في الطاقة والرقائق
في مقابلة جريئة مع برنامج “Squawk Box” على شبكة “CNBC”، تحدث “هوانغ” عن خمسة محاور رئيسية تكشف ميزان القوى الحالي بـ “سباق الذكاء الاصطناعي” بين البلدين؛ حيث جاء تصريحه الأول حاسمًا: “الصين تتفوق علينا بالطاقة، ونحن نتفوق بالرقائق”. هذا التصريح يلخص بوضوح التحديات المتبادلة بين القوتين العظميين بالقطاع التكنولوجي الأكثر أهمية للمستقبل.
وأوضح “هوانغ” أن الصين متقدمة بوضوح بمجال الطاقة اللازمة لتشغيل مراكز البيانات الضخمة، بينما تظل الولايات المتحدة متفوقة بالرقائق. لكنه أشار إلى أنهم “قريبون جدًا منا” بالبنية التحتية ونماذج الذكاء الاصطناعي. ويؤكد ذلك أن الفجوة التكنولوجية تضيق بسرعة. كما يحذر من أن التفوق الأمريكي بالرقائق قد لا يكون كافيًا لضمان الريادة طويلة الأمد.
-
مفارقة الطاقة والاستثمارات الضخمة
وبالحديث عن الاستثمارات، تعدّ “نفيديا” الرائدة عالميًا بتصنيع رقائق الذكاء الاصطناعي. لذا، أعلنت في سبتمبر الماضي عن خطة لاستثمار ما يصل إلى 100 مليار دولار بـ “OpenAI” لإنشاء مراكز بيانات ضخمة. وتهدف هذه الاستثمارات الطموحة إلى تعزيز موقع الولايات المتحدة بالصدارة التقنية. كما تبرز حجم المنافسة الشرسة على تطوير القدرات الحاسوبية.
لكن هذه الاستثمارات الطموحة تحتاج إلى كميات هائلة من الطاقة الكهربائية. وهي نقطة تتفوق فيها الصين بوضوح على الولايات المتحدة. ووفقًا لمعهد الطاقة، أنتجت الصين عام 2024 نحو 10,000 تيراواط/ساعة من الكهرباء، أي أكثر من ضعف إنتاج الولايات المتحدة. هذا التفوق بالطاقة يمثل مفارقة كبرى؛ إذ يمكن أن يقوض الميزة الأمريكية بالعتاد التقني بالمدى الطويل.
2. الصين ليست بلا رقائق ولا يمكن تجاهلها
يأتي التصريح الثاني لهوانغ ليؤكد على قوة الصين الذاتية بهذا المجال؛ حيث قال: “لا تنسوا أن هذا بلد ليس بلا رقائق. لديهم هواوي، ولديهم شركات ناشئة شديدة التطور وريادية تصمم رقائق ذكاء اصطناعي”. ذلك التأكيد يرسل إشارة واضحة مفادها أن القيود الأمريكية لم تنجح بشل القدرات الصينية. كما يحذر من ظهور منافسين أقوياء.
ورغم أن الولايات المتحدة تتصدر تصميمات الرقائق المتقدمة مثل معالج “Blackwell” من “نفيديا”. إلا أن “هواوي” تضيف ضغطًا متزايدًا بخططها لإطلاق أنظمة حوسبة جديدة لتشغيل رقائق “Ascend” الخاصة بها بالعام المقبل. ويشير هذا التطور إلى أن المنافسة لم تعد مقتصرة على التصميم فحسب، بل امتدت لتشمل القدرة على توفير بنية تحتية حاسوبية محلية متكاملة.
-
الاستقلالية الصينية وتفضيل الإنتاج المحلي
وفي خطوة تعزز الاستقلالية الصينية، عززت بكين من استقلاليتها بهذا المجال عقب حظرها مؤخرًا لشركات التكنولوجيا المحلية من استخدام رقائق “نفيديا”. لذا، فضلت تطوير رقائق محلية تنافس معالجات الشركة الأمريكية. ويهدف هذا التفضيل للإنتاج المحلي إلى تأمين سلاسل الإمداد، كما يعطي دفعة هائلة لقطاع تصميم الرقائق الصيني الناشئ.
وبالفعل، بدأت شركات التكنولوجيا العملاقة مثل: علي بابا وبايدو باستخدام رقائق مصممة داخليًا لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي الخاصة بها. ويقلل هذا التحول اعتمادها على الإمدادات الخارجية، كما يبرهن على نجاح الإستراتيجية الصينية بتحقيق الاكتفاء الذاتي الجزئي. ويمثل ذلك تحديًا مباشرًا لهيمنة الشركات الأمريكية بسوق الذكاء الاصطناعي العالمي.
3. قلق من سرعة تطور التطبيقات
استكمل هوانغ تصريحاته قائلًا: “إنه قلق للغاية من السرعة التي تتقدم بها الصين بتطبيقات الذكاء الاصطناعي”. كما أوضح أن قلة القيود التنظيمية بالقطاع الصناعي الصيني تجعلها أسرع بتبني التقنيات الجديدة وتطبيقها على نطاق واسع. ويؤكد هذا القلق أن البيئة التشريعية المرنة ببكين تمنحها ميزة تنافسية بتسريع دورة الابتكار. ما يشكل تحديًا حقيقيًا للمجتمع الغربي الأكثر تنظيمًا.
وفي هذا الصدد، تهدف بكين إلى أن تصل نسبة تبني الذكاء الاصطناعي إلى 70% من السكان بحلول عام 2027، وذلك وفقًا لتوجيه صادر عن مجلس الدولة الصيني. ويتم تحقيق هذا الهدف من خلال دمج الوكلاء الرقميين والتطبيقات الذكية بالقطاعات الصناعية الرئيسية. ويبرهن هذا الطموح على أن الصين لا تسعى للاكتفاء الذاتي بالعتاد فحسب، بل تهدف إلى تحقيق انتشار تقني هائل على مستوى الدولة.
-
الثورة الصناعية تحسم في طبقة الانتشار
ومن جانب آخر، أضاف هوانغ تحذيرًا موجهًا للجانب الأمريكي. فقد قال: “آمل أن تكون الشركات الأمريكية والمجتمع الأمريكي سريعين بتبني تطبيقات الذكاء الاصطناعي. لأن الثورة الصناعية الجديدة تحسم بطبقة التطبيقات وانتشارها”. ويركز هذا التحذير على أن التفوق بتقنيات الرقائق الأساسية لا يكفي لضمان النصر، ما لم يترجم إلى قيمة اقتصادية وسرعة بالتطبيق العملي.
ويعكس هذا التركيز على طبقة التطبيقات إدراكًا بأن التقنية بحد ذاتها لا تكفي ما لم يتم دمجها وتحويلها إلى قيمة اقتصادية ومجتمعية ملموسة. ولذلك، يتطلب سباق الذكاء الاصطناعي اليوم قدرة على الابتكار التقني. إضافة إلى قدرة أكبر على التنفيذ السريع والتكيف بالصناعات المختلفة. وهو المعيار الحقيقي الذي سيحدد الفائز بهذه الثورة التكنولوجية.
4. السوق الصينية الضخمة لا يمكن تجاهلها
أكد هوانغ الأهمية الحيوية للسوق الصينية بقوله: “السوق الصينية ضخمة. لديهم مليار مستخدم، لذا لا يمكنك ببساطة أن تقرر الابتعاد عنها إذا كان هدفك النهائي هو فوز أميركا بسباق الذكاء الاصطناعي”. هذا التصريح يضع العلاقة بين واشنطن وبكين بإطار واقعي. إذ يبرهن على استحالة عزل السوق الصينية دون المساس بفرص الولايات المتحدة بالريادة العالمية.
كذلك، أوضح أن الصين تمتلك 50% من باحثي الذكاء الاصطناعي بالعالم و30% من سوق التكنولوجيا العالمي. ويفرض هذا الحجم تحديًا على الإستراتيجيات الأمريكية التي تسعى لعزل الصين تقنيًا. كما يرسخ أهمية التعاون الجزئي بالقطاع التكنولوجي. ويؤكد ذلك أن القوة البشرية والمالية للصين تجعلها طرفًا لا يمكن تجاهله.
-
انتعاش الأسهم وثقة المستثمرين في بكين
وفي المقابل، شهدت أسواق الأسهم الصينية انتعاشًا قويًا بفضل الثقة المتزايدة بتقدمها بتصنيع الرقائق وتطوير الذكاء الاصطناعي. حيث ارتفعت أسعار أسهم شركات التكنولوجيا بأكثر من ثلاثة أضعاف خلال العام الماضي. ويمثل هذا الأداء مؤشرًا واضحًا على أن الأسواق تراهن على قدرة بكين بالتغلب على القيود الأمريكية ومواصلة الابتكار بالقطاع التقني.
وبشكل أكثر تحديدًا، ارتفع سهم “علي بابا” بنحو 180% منذ بداية العام. بينما صعدت أسهم شركة الإلكترونيات “شاومي” بنسبة 125%. وتؤكد هذه الأرقام ثقة السوق بالقدرة التنافسية للشركات الصينية. كما تبرز أن التوجه نحو الإنتاج المحلي لم يؤدِ إلى تدهور بالجودة أو القيمة، بل أسهم بتعزيزهما بأعين المستثمرين.
5. العزل التقني يترك بقية العالم للمنافسين
قدم هوانغ تحذيره الأخير والأكثر حدة قائلًا: “نحن بالأساس نعزل التكنولوجيا الأمريكية داخل الولايات المتحدة، ونتخلى عن بقية العالم للمنافسين الآخرين”. ويوجه هذا التصريح انتقادًا مباشرًا لسياسات التقييد؛ إذ يرى أنها تساهم بانحسار النفوذ التكنولوجي الأمريكي عالميًا. ويؤكد ذلك أن الحمائية قد تحقق أمنًا قصير الأمد، لكنها تقوض الريادة طويلة الأمد.
كما دعا هوانغ إلى تطوير البنية التقنية الأمريكية بحيث تستطيع جذب مطوري الذكاء الاصطناعي والأسواق العالمية. لذا، حذر من أن الولايات المتحدة ستتراجع إذا لم يسمح للتكنولوجيا الأمريكية بالانتشار عالميًا. هذه الدعوة تهدف إلى تحويل التكنولوجيا من أداة حماية إلى أداة توسع؛ ما يضمن بقاء الشركات الأمريكية بقلب الابتكار العالمي.
-
حصة السوق العالمية ومحورية الانتشار
وفي تأكيد محوري على أهمية الانتشار، استشهد هوانغ بتصريحات مستشار البيت الأبيض للذكاء الاصطناعي ديفيد ساكس حول مستقبل التكنولوجيا خلال السنوات الخمس المقبلة. مؤكدًا: “إذا كانت التكنولوجيا الأمريكية تمثل 80% من البنية التقنية بالعالم، فنحن نسير بالطريق الصحيح ونفوز بسباق الذكاء الاصطناعي. أما إذا أصبحت 20% فقط، فحينها نكون قد خسرنا السباق”.
وبالتالي، يلخص هذا التصريح أهمية الانتشار العالمي كمعيار نهائي للتفوق بهذا العصر الرقمي المتسارع. إذ لا يكفي التفوق بالابتكار الأساسي، بل يجب أن يتبعه سيطرة على حصة السوق العالمية. ويعني ذلك أن المعركة الحقيقية بسباق الذكاء الاصطناعي تحسم على أرضية التطبيق والمنافسة الدولية المفتوحة.
إعادة تشكيل النظام التقني العالمي
في نهاية المطاف، أشار هوانغ إلى شركات مثل: “Azure” و”CoreWeave” و”Anthropic AI”، معتبرًا أنها تلعب دورًا محوريًا بإعادة تشكيل النظام التقني العالمي بأكمله. ويرتكز هذا السباق على مفاهيم الطاقة، والرقائق، والتطبيقات، وحصة السوق العالمية.
لذا، تؤكد تصريحات رئيس “نفيديا” أن سباق الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد مسألة تفوق تكنولوجي لحظي. بل هو معركة إستراتيجية طويلة الأمد تحسم بالقدرة على التكيف والانتشار. وإدماج القوى التكنولوجية والاقتصادية بذكاء ودبلوماسية.