ربما لم تعرف منظمة اليونسكو منذ تأسيسها حدثًا بهذه الرمزية وهذا الإجماع اللافت، حين اكتسح الدكتور خالد العناني سباق انتخاب مديرها العام، محققًا 55 صوتًا من أصل 58، في سابقةٍ تعكس التقدير العالمي لعقله العلمي ورؤيته الحضارية الشاملة.
وبالفعل مسيرته التي انطلقت من قاعات جامعة حلوان لم تكن رحلة أكاديمية عابرة، لكنها كانت مسارًا وطنيًا ودوليًا حمل شغف التاريخ وعبق الحضارة المصرية إلى أرفع المحافل العالمية.
فضلًا عن ذلك -ومع كل محطة في طريقه- صاغ العناني ملامح مشروع ثقافي يؤمن بأن المعرفة تشكّل قوة صانعة للجسور لا الحواجز. وبالتأكيد هذا ما أوصله إلى ذروة الإنجاز بتوليه قيادة أرفع مؤسسة ثقافية في العالم، بصفته أول مصري وعربي يعتلي هذا المنصب الرفيع منذ تأسيس المنظمة.
وهكذا يثبت أن صوت الحضارة لا يخفت حين يجد من يحمله بثقة وإيمان مطلقين.
الحياة المبكرة والتعليم
وُلِد خالد العناني يوم 14 مارس 1971 بمحافظة الجيزة المصرية. وبالتحديد نشأ ضمن كنف عائلة علمية؛ فهو ابن مهندس ومعلم للغة الفرنسية، وهو الأمر الذي أثر بوضوح في مساره التعليمي.
ونتيجة لذلك التحق بمدرسة ثانوية ناطقة بالفرنسية، وحصل على شهادة الثانوية عام 1988؛ ما منحه إتقانًا مبكرًا للغة والثقافة الفرنسية.
ومباشرة بعد حصوله على الشهادة الثانوية التحق العناني بكلية الإرشاد السياحي. ولاحقًا أظهر تفوقًا مكّنه من التعيين معيدًا بجامعة حلوان، ثم أصبح مدرسًا مساعدًا. واستكمالًا لذلك أكمل العناني مسيرته الأكاديمية بنجاح باهر؛ إذ حصل على درجة الدكتوراه بعلم المصريات من جامعة بول فاليري مونبلييه الفرنسية عام 2001.
المسيرة الأكاديمية والتدريس حول العالم
بدأ العناني مسيرته الأكاديمية الرسمية بصفته باحثًا مساعدًا عام 2002، ثم أصبح أستاذًا لعلم المصريات بجامعة حلوان. ولاحقًا تنقل بين أقسامها الأكاديمية من قسم الإرشاد السياحي إلى كلية السياحة وإدارة الفنادق عام 2011.
ولكن لم تقتصر رحلته التعليمية على مصر؛ بل امتد تأثيره الأكاديمي ليشمل جامعات حول العالم.
وبالفعل كان يدرّس اللغة المصرية القديمة بانتظام في العديد من الجامعات الدولية المرموقة. من بينها جامعة باليرمو وجامعة بول فاليري مونبلييه وجامعة براندنبورغ للتكنولوجيا. هذا الدور جعله سفيرًا للمعرفة المصرية في الأوساط الأكاديمية الدولية.
العضويات العلمية وقيادة المتحف القومي
وإلى جانب التدريس أصبح العناني عضوًا فاعلًا في العديد من المؤسسات العلمية العالمية المرموقة. وكان أبرزها كونه عضوًا مراسلًا بالمعهد الأثري الألماني ببرلين، وهذه شهادة على مكانته بالبحث الأثري الدولي.
كذلك.كان باحثًا مشاركًا وعضوًا بمجلس إدارة المعهد الفرنسي للآثار الشرقية (IFAO)، الأمر الذي عزز خبرته بإدارة المؤسسات الثقافية.
وعقب ذلك، وتحديدًا أكتوبر 2014، تولى العناني قيادة المؤسسة الأبرز بمصر؛ إذ أصبح المدير العام الثامن عشر للمتحف الوطني للحضارة المصرية (NMEC).
بداية المسيرة الوزارية وقيادة قطاع الآثار
في 23 مارس 2016 كانت نقطة التحول إلى العمل الحكومي؛ حيث أصبح العناني وزيرًا للآثار ضمن حكومة شريف إسماعيل. وخلال فترة ولايته تميز بقدرته على تأمين التمويل اللازم للمشاريع القومية الكبرى.
على سبيل المثال: تمكن العناني من تأمين الأموال لبناء المتحف المصري الكبير الذي طال انتظاره، وتجديد المباني التاريخية الأخرى مثل: قصر البارون إمبان، والمتحف اليوناني الروماني، ومعبد إيلياهو هانبي. وهذا ما أحدث نقلة بصون التراث المصري.
في حين كان حريصًا على استغلال الاكتشافات الأثرية للترويج للسياحة؛ إذ عرف عنه تنظيم المؤتمرات الصحفية الدولية عقب كل اكتشاف أثري جديد. الأمر الذي كان له أثر مباشر بجذب الاهتمام العالمي بالوجهات المصرية.
وبالإضافة إلى ذلك كان يهدف إلى مكافحة التطرف من خلال تشجيع الشعب المصري على الاهتمام بشكل أكبر بتاريخ مصر القديمة وحضارتها. مؤمنًا بأن الوعي بالتاريخ هو صمام أمان ثقافي. وعند تعيين حكومة مصطفى مدبولي عام 2018 احتفظ العناني بمنصبه كوزير للآثار.
توسيع الحقيبة الوزارية والتكليف بالسياحة
شهدت حقيبة العناني توسعًا إستراتيجيًا خلال التعديل الوزاري الذي جرى يوم 22 ديسمبر 2019؛ إذ أُضيف قطاع السياحة إلى مسؤولياته. وبذلك أصبح وزيرًا للسياحة والآثار؛ ليجمع بين إدارة قطاعين متكاملين وحيويين للاقتصاد المصري.
وبالفعل استمر العناني في قيادة الوزارة المدمجة حتى حل محله أحمد عيسى وزيرًا للسياحة والآثار بتعديل وزاري لاحق تم يوم 13 أغسطس 2022.
وحتى بعد مغادرته المنصب الوزاري واصل أداء أدوار دولية هامة. على سبيل المثال: عام 2024 عُين سفيرًا للسياحة الثقافية للأمم المتحدة، وهو ما جعله صوتًا مؤثرًا بتوجيه السياسات السياحية العالمية نحو الاستدامة الثقافية.
كذلك، في شهر يناير 2025، عين العناني مقررًا لصندوق التراث العالمي الإفريقي. هذا التعيين الأخير عزز من مكانته داخل القارة الإفريقية ومنحه منصة للمساهمة بمهمة الحفاظ على التراث الإفريقي المتنوع والفريد.
ترشيح اليونسكو والدعم الإفريقي العربي
وبعد مسيرة حافلة أصبح الدكتور خالد العناني مرشح مصر الرسمي لمنصب المدير العام لمنظمة اليونسكو للفترة الممتدة من 2025 إلى 2029. هذا الترشيح حظي بدعم قوي وموحد من عدة كتل دولية رئيسة. وعلى وجه الخصوص حظي ترشيحه بدعم قاطع من الاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية.
بالإضافة إلى دعم العديد من الدول الأوروبية والآسيوية والأمريكية اللاتينية، مثل: فرنسا وإسبانيا وتركيا والجابون وألمانيا والبرازيل.
وبالفعل، وفي يوم 6 أكتوبر 2025، تحقق الإنجاز الأبرز بمسيرة العناني؛ إذ انتُخب مديرًا عامًا لليونسكو بأغلبية كاسحة وغير مسبوقة. وحصل على 55 صوتًا من أصل 57 صوتًا مُدلى به بانتخابات المجلس التنفيذي للمنظمة.
تلك النسبة الهائلة من الأصوات تعكس مستوى الإجماع الدولي على كفاءته وقدرته على قيادة المنظمة خلال مرحلة تتطلب التنسيق بين الثقافات والحضارات لمواجهة التحديات العالمية المشتركة.
الأوسمة الفرنسية وتقدير الفنون والآداب
تلقى العناني العديد من الأوسمة والتكريمات الدولية التي تشهد على إنجازاته في مجالات الفنون والثقافة. ففي عام 2015 قلِّد وسام الفنون والآداب الفرنسي برتبة “فارس”. وهو من أرفع الأوسمة التي تمنحها الجمهورية الفرنسية للمساهمين في الإثراء الثقافي. ثم حصل على وسام جوقة الشرف الوطني الفرنسي برتبة فارس في 2 سبتمبر 2025. وهو أعلى وسام شرف فرنسي؛ ما يدل على عمق علاقاته الثقافية والتعليمية مع فرنسا.
ولم يقتصر التكريم على فرنسا؛ بل منح الدكتور خالد العناني وسام الاستحقاق لجمهورية بولندا في عام 2020، تقديرًا لجهوده في التعاون الأثري والثقافي بين مصر وبولندا. كما حصل على وسام الشمس المشرقة الياباني في عام 2021؛ ما يعكس تقدير اليابان لدوره في الترويج للحضارة المصرية.
وفي إطار تقدير مساهماته الأكاديمية منح درجة الدكتوراه الفخرية من جامعة بول فاليري مونبلييه 3 في 26 سبتمبر 2024. وهي الجامعة التي حصل منها على شهادة الدكتوراه الأصلية قبل عقدين من الزمان.