تزايدت أهمية الحوكمة نتيجة لاتجاه كثير من دول العالم إلى النظم الاقتصادية الرأسمالية التي يُعتمد فيها بدرجة كبيرة على الشركات الخاصة؛ لتحقيق معدلات مرتفعة ومتواصلة من النمو الاقتصادي. وأدى اتساع حجم تلك المشروعات إلى انفصال الملكية عن الإدارة.
وبدأت تلك المشروعات في البحث عن مصادر للتمويل أقل تكلفة من المصادر المصرفية، فاتجهت إلى أسواق المال، وساعد في ذلك ما شهده العالم من تحرير للأسواق المالية، فتزايدت انتقالات رؤوس الأموال عبر الحدود بشكل غير مسبوق، ودفع اتساع حجم الشركات وانفصال الملكية عن الإدارة إلى ضعف آليات الرقابة على تصرفات المديرين، وإلى وقوع كثير من الشركات في أزمات مالية، ثم توالت بعد ذلك الأزمات، ولعل من أبرزها: أزمة شركتي “أنرون” و”ورلد كوم” في الولايات المتحدة عام 2001. ودفع ذلك العالم للاهتمام بالحوكمة.
وتهدف قواعد وضوابط الحوكمة إلى تحقيق الشفافية والعدالة، ومنح حق مساءلة إدارة الشركة، وبالتالي تحقيق الحماية للمساهمين وحملة الوثائق جميعًا، مع مراعاة مصالح العمل والعمال، والحد من استغلال السلطة في غير المصلحة العامة، بما يؤدى إلى تنمية الاستثمار وتشجيع تدفقه، وتنمية المدخرات،
وظهرت الحاجة إلى الحوكمة في العديد من الاقتصاديات المتقدمة والناشئة خلال العقود القليلة الماضية، خاصة في أعقاب الانهيارات الاقتصادية والأزمات المالية التي شهدتها عدد من دول شرق آسيا وأمريكا اللاتينية وروسيا في عقد التسعينيات من القرن العشرين، وكذلك ما شهده الاقتصاد الأمريكي مؤخرًا من انهيارات مالية ومحاسبية خلال عام 2002.
وأكدت العديد من الدراسات أهمية الالتزام بمبادئ حوكمة الشركات وأثرها في زيادة ثقة المستثمرين في أعضاء مجالس إدارة الشركات، وبالتالي قدرة الدول على جذب مستثمرين محليين أو أجانب، وما يترتب على ذلك من تنمية اقتصادات تلك الدول، وصاحب ذلك قيام العديد من دول العالم والمنظمات الدولية بالاهتمام بمفهوم حوكمة الشركات، وذلك من خلال قيام الهيئات العلمية والجهات التشريعية بإصدار مجموعة من اللوائح والقوانين والتقارير والقواعد التي تؤكد أهمية التزام الشركات بتطبيق تلك المبادئ.
تعريف الحوكمة والهدف منها
يُعد مصطلح الحوكمة هو الترجمة المختصرة لمصطلح CORPORATE GOVERNANCE، أما الترجمة العلمية لهذا المصطلح، والتي اُتفق عليها، فهي: “أسلوب ممارسة سلطات الإدارة الرشيدة”.
وتعددت التعريفات المقدمة لهذا المصطلح؛ بحيث يدل كل مصطلح عن وجهة النظر التي يتبناها مقدم هذا التعريف، فتعرف مؤسسة التمويل الدولية IFC الحوكمة بأنها “هي النظام الذي يتم من خلاله إدارة الشركات والتحكم في أعمالها”، كما تعرفها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD بأنها “مجموعة من العلاقات فيما بين القائمين على إدارة الشركة ومجلس الإدارة وحملة الأسهم وغيرهم من المساهمين”.
وهناك من يعرفها بأنها “مجموع “قواعد اللعبة” التي تُستخدم لإدارة الشركة من الداخل، ولقيام مجلس الإدارة بالإشراف عليها لحماية المصالح والحقوق المالية للمساهمين، وبمعنى آخر فإن الحوكمة تعني النظام؛ أي وجود نظم تحكم العلاقات بين الأطراف الأساسية التي تؤثر في الأداء، كما تشمل مقومات تقوية المؤسسة على المدى البعيد وتحديد المسؤول والمسؤولية.
محددات الحوكمة
هناك اتفاق على أن التطبيق الجيد لحوكمة الشركات من عدمه يتوقف على مدى توافر ومستوى جودة مجموعتين من المحددات: المحددات الخارجية وتلك الداخلية (انظر شكل ١ أدناه)، ونعرض فيما يلي لهاتين المجموعتين من المحددات بشيء من التفصيل كما يلي:
أ- المحددات الخارجية:
وتشير إلى المناخ العام للاستثمار في الدولة، والذي يشمل على سبيل المثال: القوانين المنظمة للنشاط الاقتصادي، مثل قوانين سوق المال والشركات وتنظيم المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية والإفلاس، وكفاءة القطاع المالي (البنوك وسوق المال) في توفير التمويل اللازم للمشروعات، ودرجة تنافسية أسواق السلع وعناصر الإنتاج، وكفاءة الأجهزة والهيئات الرقابية (هيئة سوق المال والبورصة) في إحكام الرقابة على الشركات.
وذلك فضلًا عن بعض المؤسسات ذاتية التنظيم التي تضمن عمل الأسواق بكفاءة، ومنها على سبيل المثال: الجمعيات المهنية التي تضع ميثاق شرف للعاملين في السوق، مثل المراجعين والمحاسبين والمحامين والشركات العاملة في سوق الأوراق المالية وغيرها، بالإضافة إلى المؤسسات الخاصة للمهن الحرة مثل مكاتب المحاماة والمراجعة والتصنيف الائتماني والاستشارات المالية والاستثمارية.
وترجع أهمية المحددات الخارجية إلى أن وجودها يضمن تنفيذ القوانين والقواعد التي تضمن حسن إدارة الشركة، والتي تقلل من التعارض بين العائد الاجتماعي والعائد الخاص.
ب-المحددات الداخلية:
وتشير إلى القواعد والأسس التي تحدد كيفية اتخاذ القرارات وتوزيع السلطات داخل الشركة بين الجمعية العامة ومجلس الإدارة والمديرين التنفيذيين، والتي يؤدى توافرها من ناحية وتطبيقها من ناحية أخرى إلى تقليل التعارض بين مصالح هذه الأطراف الثلاثة.
والمؤسسات الخاصة تشير إلى عناصر القطاع الخاص، وكيانات الادارة الذاتية، ووسائل الاعلام، والمجتمع المدني. وتلك الجهات التي تقلل من عدم توافر المعلومات، وترفع من درجة مراقبة الشركات، وتلقي الضوء على السلوك الانتهازي للإدارة.
وتؤدى الحوكمة في النهاية إلى زيادة الثقة في الاقتصاد القومي، وتعميق دور سوق المال، وزيادة قدرته على تعبئة المدخرات ورفع معدلات الاستثمار، والحفاظ على حقوق الأقلية أو صغار المستثمرين. ومن ناحية أخرى تشجع الحوكمة على نمو القطاع الخاص ودعم قدراته التنافسية، وتساعد المشروعات في الحصول على التمويل وتوليد الأرباح، وأخيرًا صنع فرص عمل.
معايير الحوكمة
نظرًا للاهتمام المتزايد بمفهوم الحوكمة حرصت عديد من المؤسسات على دراسة هذا المفهوم وتحليله ووضع معايير محددة لتطبيقه، ومن هذه المؤسسات: منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وبنك التسويات الدولية BIS ممثلًا في لجنة بازل، ومؤسسة التمويل الدولية التابعة للبنك الدولي.
وفي الواقع نجد أنه كما اختلفت التعريفات المعطاة لمفهوم الحوكمة اختلفت كذلك المعايير التي تحكم عملية الحوكمة، وذلك من منظور وجهة النظر التي تحكم كل جهة، وذلك على النحو التالي:
معايير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية
يتم تطبيق الحوكمة وفق خمسة معايير توصلت إليها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في عام 1999، علمًا بأنها أصدرت تعديلًا لها في عام 2004. وتتمثل في:
1-ضمان وجود أساس لإطار فعال لحوكمة الشركات: يجب أن يتضمن إطار حوكمة الشركات كلًا من تعزيز شفافية الأسواق وكفاءتها، كما يجب أن يكون متناسقًا مع أحكام القانون، وأن يصيغ بوضوح تقسيم المسؤوليات فيما بين السلطات الإشرافية والتنظيمية والتنفيذية المختلفة. 2-حفظ حقوق جميع المساهمين: وتشمل نقل ملكية الأسهم، واختيار مجلس الإدارة، والحصول على عائد في الأرباح، ومراجعة القوائم المالية، وحق المساهمين في المشاركة الفعالة باجتماعات الجمعية العامة.
3-المعاملة المتساوية بين جميع المساهمين: وتعنى المساواة بين حملة الأسهم داخل كل فئة، وحقهم في الدفاع عن حقوقهم القانونية، والتصويت في الجمعية العامة على القرارات الأساسية، وكذلك حمايتهم من أي عمليات استحواذ أو دمج مشكوك فيها، أو من الاتجار في المعلومات الداخلية، وكذلك حقهم في الاطلاع على كل المعاملات مع أعضاء مجلس الإدارة أو المديرين التنفيذيين.
4-دور أصحاب المصالح في أساليب ممارسة سلطات الإدارة بالشركة: وتشمل احترام حقوقهم القانونية، والتعويض عن أي انتهاك لتلك الحقوق، وكذلك آليات مشاركتهم الفعالة في الرقابة على الشركة، وحصولهم على المعلومات المطلوبة. ويُقصد بأصحاب المصالح: البنوك والعاملون وحملة السندات والموردون والعملاء.
5-الإفصاح والشفافية: وتتناول الإفصاح عن المعلومات المهمة ودور مراقب الحسابات، والإفصاح عن ملكية النسبة العظمى من الأسهم، والإفصاح المتعلق بأعضاء مجلس الإدارة والمديرين التنفيذيين. ويتم الإفصاح عن كل تلك المعلومات بطريقة عادلة بين جميع المساهمين وأصحاب المصالح في الوقت المناسب ودون تأخير.
6-مسؤوليات مجلس الإدارة: وتشمل هيكل مجلس الإدارة وواجباته القانونية، وكيفية اختيار أعضائه ومهامه الأساسية، ودوره في الإشراف على الإدارة التنفيذية.
معايير لجنة بازل للرقابة المصرفية العالمية (Basel Committee)
وضعت لجنة بازل في عام 1999 إرشادات خاصة بالحوكمة في المؤسسات المصرفية والمالية، وهي تركز على النقاط التالية:
1- قيم الشركة ومواثيق الشرف للتصرفات السليمة وغيرها من المعايير للتصرفات الجيدة والنظم التي يتحقق باستخدامها تطبيق هذه المعايير.
2-استراتيجية للشركة معدة جيدًا، والتي بموجبها يمكن قياس نجاحها الكلي ومساهمة الأفراد في ذلك.
3-التوزيع السليم للمسؤوليات ومراكز اتخاذ القرار متضمنًا تسلسلًا وظيفيًا للموافقات المطلوبة من الأفراد للمجلس.
4-وضع آلية للتعاون الفعال بين مجلس الإدارة ومدققي الحسابات والإدارة العليا.
5-توافر نظام ضبط داخلي قوي يتضمن مهام التدقيق الداخلي والخارجي وإدارة مستقلة للمخاطر عن خطوط العمل، مع مراعاة تناسب السلطات مع المسؤوليات (Checks & Balances).
6-مراقبة خاصة لمراكز المخاطر في المواقع التي يتصاعد فيها تضارب المصالح، بما في ذلك علاقات العمل مع المقترضين المرتبطين بالمصرف وكبار المساهمين والإدارة العليا، أو متخذي القرارات الرئيسية في المؤسسة.
7-الحوافز المالية والإدارية للإدارة العليا التي تحقق العمل بطريقة سليمة، وأيضًا بالنسبة للمديرين أو الموظفين، سواء كانت في شكل تعويضات أو ترقيات أو عناصر أخرى.
8-تدفق المعلومات بشكل مناسب داخليًا أو إلى الخارج.
معايير مؤسسة التمويل الدولية
وضعت مؤسسة التمويل الدولية التابعة للبنك الدولي في عام 2003 قواعد ومعايير عامة تراها أساسية لدعم الحوكمة في المؤسسات على تنوعها، سواء كانت مالية أو غير مالية، وذلك على مستويات أربعة كالتالي:
1- الممارسات المقبولة للحكم الجيد.
2- خطوات إضافية لضمان الحكم الجيد الجديد.
3- إسهامات أساسية لتحسين الحكم الجيد محليًا.
4- القيادة.
الدكتور عادل عامر
اقرأ أيضًا:
نصائح ريد هوفمان لرواد الأعمال.. فرصتك الأولى نحو الاستقلال المالي
أهم المهارات الاجتماعية لرائد الأعمال