قبل سنوات قليلة غيرت شركة أبل وجه العالم بابتكارها الذي أرسى قواعد عصر الهواتف الذكية. وبفضل هذا الإنجاز صعدت إلى قمة هرم التكنولوجيا بأجهزة هيمنت على الأسواق لسنوات عديدة. ومع ذلك يؤكد المشهد التكنولوجي الراهن أن العرش التقني لا يعرف الاستقرار الدائم. واليوم تجد أجهزة هواتف آيفون، التي كانت رمزًا للثورة والإبداع، نفسها في مواجهة تحديات عميقة وغير مسبوقة.
واللافت هنا هو أن الخطر الحقيقي لم يعد يكمن في المنافسة التقليدية التي تعتمد على تحسين الأجهزة المادية. بل على العكس نشأ التحدي من سباق مختلف كليًا، أساسه التفوق في الخوارزميات والذكاء الاصطناعي المُتعلم.
وفي هذا الإطار يوصف عملاق التقنية الآن بأنه “يتعلم ببطء” في هذا المضمار الحاسم. ففي الوقت الذي انطلقت فيه الشركات المنافسة لتطوير “التجربة الذكية”، ظلت أبل تركز بشكلٍ مفرط على صقل التصميم والجودة المادية في هواتف آيفون.
ضحية قصر النظر التسويقي
ونتيجة لهذا التباطؤ في تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي تساءل الخبراء بجدية: هل تقع أبل ضحية لما يعرف بـ “قصر النظر التسويقي”؟. ففي حالة استمرار هذا التوجه قد تقترب الشركة من مصير عمالقة سابقين أزاحتهم هي نفسها من الصدارة في عصور سابقة.
وبذلك.يلوح في الأفق خطر حقيقي على هيمنة هواتف آيفون في سوق الهواتف الذكية المتطور.
وتأكيدًا لهذا التقييم النقدي جاء في تقرير مفصّل نشرته “بلومبرج”؛ حيث وُصفت أبل بأنها شركة “تتعلم ببطء ما كانت تدرّسه للعالم”. ويعتقد أن نجاحها الطويل أسهم في جعل قراراتها أكثر حذرًا وتحفظًا من أي وقت مضى.
وبينما تسابقت الشركات التقنية الأخرى نحو قمة “الذكاء الاصطناعي”، ما زالت أبل تستثمر جل تركيزها في التصميم المادي، لا في تطوير الخوارزمية الذكية. وبالتالي، في سباق التقنية الحديثة، يعد الحذر المفرط مخاطرة قد تكلفها عرش الصدارة.
عمى التركيز على الجودة المادية
من الناحية المنهجية يقول خبراء التسويق بوضوح إن أبل تعاني من أعراض “قصر النظر التسويقي” الكلاسيكي. وتحدث هذه الحالة حين ترى الشركة نفسها من منظور ما كانت عليه في الماضي. أي كشركة تصميم وجودة، بدلًا من التكيف مع متطلبات السوق الجديدة.
وفي الواقع، ومنذ سنوات، ظلت أبل تنظر إلى العالم من نافذة “التصميم” و”الجودة” الفائقة. ولكن المنافسة اليوم تحولت بشكلٍ جذري إلى سباق حول تقديم “تجربة ذكية” متطورة. وهي تجربة تتعلم من عادات المستخدم وتتوقع احتياجاته، محولة الهاتف إلى شريك فكري فعال.
الوعد الذي لم يتحقق
وبالانتقال إلى أدوات أبل الذكية يعد المساعد الصوتي “سيري” الدليل الأوضح على هذا التباطؤ. فعندما اشترت أبل تطبيق “سيري” في عام 2011 بدا هذا الاستحواذ كأنه إمساك بمفتاح المستقبل الرقمي. غير أنه، بعد مرور أكثر من عقد، بقي هذا المساعد الصوتي في مكانه تقريبًا دون تطور فعلي يذكر.
وفي المقابل شهدت أنظمة “جوجل” و”أمازون” تطورات هائلة؛ حيث أصبحت قادرة على التعلم والتوقع والتحسين المستمر لأدائها. في حين ظلت “سيري” تكرر الإجابات ذاتها دون إثراء يذكر، وبذلك تحولت من رمز للذكاء المتوقع إلى تذكير دائم بتراجع أبل في سباق تطوير الذكاء الاصطناعي.
القيد الذي صنعته «أبل»
على المستوى المبدئي بنت أبل سمعتها وصورتها التسويقية لسنوات طويلة على أساس حماية بيانات المستخدمين وخصوصيتهم. غير أن المفارقة تكمن في أن هذه الميزة نفسها، التي كانت نقطة قوتها، أصبحت اليوم تحديًا يحد من قدرتها على التطور والتقدم في مجال الذكاء الاصطناعي.
ومن الناحية التقنية بينما تغذي شركات كبرى. مثل: “جوجل” و”مايكروسوفت” خوارزمياتها بكم هائل من البيانات الضخمة المستمدة من تفاعلات المستخدمين، تجد أبل نفسها مقيدة بضرورة حصر ذكائها داخل جدران الخصوصية الصارمة.
هذا القيد، سواء كان أخلاقيًا أو تقنيًا، جعلها تتأخر في سباق كان من المفترض أن تكون دائمًا في طليعته.
النهاية المحتملة
في استقراء للتاريخ لم تسقط شركة “نوكيا” العريقة من القمة لأنها توقفت عن الإبداع في مجال الأجهزة الأساسية. بل سقطت لأنها اعتقدت أن الإبداع الذي كان لديها لن يشيخ أو يُتجاوز بمرور الزمن وتغير قواعد اللعبة.
واليوم تجد أبل نفسها أمام المرآة التاريخية نفسها: عملاق تقني يخشى أن يفقد سر تفوقه في عصر تتسارع فيه وتيرة الابتكار القائم على البيانات. وعليه، في عالم رقمي تتغير فيه الخوارزميات الجوهرية بسرعة أكبر من الهواتف، يبقى السؤال المُعلّق هو: هل تواجه أبل اليوم المصير عينه الذي كانت يومًا سببًا في صناعته لعمالقة الأجهزة التقليدية؟